الأزمة السورية ومعركة التدويل

ت + ت - الحجم الطبيعي

على أرض الواقع يتواجد في سوريا الآن نظامان سياسيان متناحران؛ أحدهما رسمي قديم والآخر شعبي عتيد. يقود "الجيش السوري الحر" الثورة السورية المناوئة للحكم التقليدي، الذي قاده حزب البعث بزعامة آل الأسد لسنين طويلة.

يوماً بعد يوم تتسع دائرة الانشقاق والتمرد على الجيش السوري الرسمي، لصالح الجيش الشعبي. الدعم الشعبي الداخلي والتعاطف الخارجي وقسوة القوة الرسمية المهيمنة، تدفع الجيش السوري الحر في اتجاه استمرار التنامي والتصعيد والصمود والتحدي.

يتمسك أركان الحكم بمقاومة الثورة الشعبية، متذرعين بوجود مؤامرة تستهدف سوريا. لهم الحق في ذلك، فسوريا تمثل تاريخاً طويلاً من الصمود وانتهاج أسلوب التصدي للقوى الدولية، التي ترنو إلى الاستحواذ على قرار ومستقبل المنطقة. تُعتبر سوريا آخر القلاع الحصينة في وجه إسرائيل والقوى المساندة لها؛ نجحت في ذلك، رغم الإمكانيات المتواضعة لديها مقارنةً بالقوى الغربية وإسرائيل.

حقيقةً، بوادر ودلائل المؤامرة، موجودة في كل فصل من فصول الثورة على النظام التقليدي الشمولي في دمشق. آخر تلك الدلائل هو تركيز المواجهات في مدينتي حمص والزبداني، القريبتين من الساحل البحري المتوسطي والحدود اللبنانية. مدينة حمص وما حولها، مكان مميَّز لإعلانه منطقة منكوبة، تستوجب تدخلاً دولياً بدواع إنسانية، لحماية المدنيين الذين يتعرضون للإبادة اليومية. لكن ما العمل إزاء حركة شعبية عارمة، لا ترى أي عيب في تلقّيها دعماً من أي مصدر كان لتخليصها من نظام استبدادي فاسد؟! أو هكذا على الأقل يزعمون.

في السابق، كما يبدو، فشلت مشاريع تحويل مدينة درعا القريبة من الحدود الأردنية ـ السورية، منطقة عازلة أو جيباً آمناً. انتقلت التطلعات إلى الحدود التركية ـ السورية، قبل ظهور بوادر الفشل قبل المضي فيها. السبب في الفشل المحتمل، هو هشاشة الوضع التركي الداخلي، بما للملفات الكردية والأرمينية الساخنة وغيرها، من تأثيرات حاسمة على تحركات وتطلعات الساسة الأتراك الخارجية. باختيار مدينة حمص وما جاورها، سوف يكون هنالك عصفوران، أو ثلاثة، يُضربان بحجر واحد؛ بالتسمية، هما حزب الله اللبناني والنظام السوري، وربما الحليف الإيراني. بسبب الحملة الإعلامية المنسَّقة إقليمياً وعالمياً، هؤلاء الثلاثة باتوا يتمتعون بشعبية متدنية في المنطقة والعالم.

لم يقم النظام السوري ولا المعارضة السورية، بأية خطوات ملموسة يُحمدان عليها، لتجنيب البلاد والعباد ويلات حرب داخلية مريرة وتدخّلٍ خارجي مكلف. ظل الطرفان يتبادلان اللعب على أوتار التهم الحقيقية والحملات الإعلامية، كلما لاح في الأفق بصيص أمل بحل سلمي مريح للجميع، ولو بالحد الأدنى. لا عجب في ذلك، فلقد باتت الأمور والأوراق في أيادٍ خارجية، لا يضيرها أن ترى سوريا تحترق، ديمغرافياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً.

فات الأوان على أية جهود في اتجاه الإصلاح والتنسيق وإحلال التآلف المتبادل. الدم السوري المُسال يعصف بالجهود السلمية ومن أية مصادر، ولو بضغوط دولية متعاظمة من جهتيْ الشرق والغرب. باتت المعركة بين الطرفين معركة وجود أو عدم، انتصار أو موت، استلام زمام سلطة البلد أو الموت دونها.

المعارضة السورية عمرها من عمر النظام، أجيال من السوريين تحلم برؤية وطنها الأم، سوريا، بشكل يقارب حلم غالبية الفلسطينيين بالعودة أو حتى رؤية فلسطين. أجيال في الداخل والخارج، رضعت حليب التمرد والحرية ونبذ النظام، منذ باكورة وجودها. تجاهلها النظام الرسمي الشمولي بطرق استبدادية، لعقود وعهود. هذه نمت وترعرعت ونضجت، وتلقت عوناً عربياً ودولياً يساعدها على مضاهاة، بل دحر النظام المركزي.

لا يبدو أن حظ النظام السوري أحسن من حظوظ الأنظمة التي مر عليها ربيع التغيير العربي؛ تونس ومصر وليبيا واليمن، أو التي تنتظر فرصة مرور ربيع التغيير عليها. فشل النظام السوري في امتحان التاريخ والسياسة والإصلاح ومحاربة الفساد، والتعامل مع التوازنات الدولية. لم يزل يأمل بلعب ورقة التعاطف والتأييد الروسي والصيني. الحليفان فشلا في السابق في تأمين الدعم الفاعل للأنظمة الأخرى، لمجرد الاستمرار في الحكم أو حتى الحصول على لجوء شخصي أو عائلي آمن. لا يزال النظام يتغنى بشعارات باتت أقرب إلى الخرافات والأساطير، منها إلى إصلاح واقع متميز بالمرارة والشظف والتخلف والفوضى والفساد، متوّجاً بحل أمني لا يقل شؤماً.

 

Email