ما بعد الإنسان الذكاء والهشاشة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في المقال السابق عن "ماهية الإنسان"، استناداً إلى مجلة "العلوم والمستقبل"، التي استنطقت عدداً كبيراً من العلماء والفلاسفة حول المسألة، كان مدخلي إلى الكلام هو الطبيعة واللغة.

وفي هذه المقالة يدور الكلام على المعرفة والأداة. وعلاقة البشر بالمعارف والأدوات، قديمة قدم الإنسان، الذي، منذ أطلق عليه اسمه، وُصف بأنه عالم صانع ينتج المعارف ويصنع الأدوات. بالطبع كانت العلاقة بهذين المجالين، في المبتدأ، بدائية، سحرية، خرافية. ثم تطورت فأصبحت مع الأديان لاهوتية غيبيّة، ومع الفلسفات والعلوم عقلانية تجريبية.

وفي العصر الحديث حقق العلم قفزات كبيرة، سواء على الصعيد الكوني والعالم الأكبر، حيث استطاع الإنسان الصعود إلى القمر وارتياد الفضاء عبر صواريخه ومركباته، أو على المستوى الذري والعالم الأصغر، حيث تمكن العلماء من تفكيك بنية المادة وتفجيرها، بتحويلها إلى طاقة نووية هائلة، بقدر ما هي خطيرة ومدمرة.

ومع ذلك، فما تحقق في العقود الأخيرة من ثورات وطفرات علمية وتقنية، هو الأكثر أهمية، وربما الأكثر خطورة، إذ هو يتعدى بمفاعيله وآثاره، مسألة السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لمنافع الإنسان ومطامحه وأهوائه، لأنه يفتح إمكاناً لا سابق له لتغيير طبيعة الإنسان بالذات، لكي يدخله في طور جديد، ليس من عمل الطبيعة، بل من فعل الإنسان نفسه، ولكنه يتعدى الإنسان إلى ما بعده.

هذا ما تتيحه الفروع والمجالات المعرفية الراهنة، كما تتجسد في علوم المورّثة (الجينة)، والأعصاب، والإدراك، والإعلام الإلكتروني، فضلاً عن المجال المتعلق بإنتاج واستخدام المواد متناهية الصغر (نانوتكنولوجيا)، التي يمكن زرعها في الجسم والخلايا، لكي تضاعف القدرة على الرصد والسبر والكشف.

وهكذا تتضافر هذه العلوم لكي تمنح الإنسان قدرات فائقة، من غير وجه، سواء لجهة تشخيص الأمراض ومعالجتها، أو إطالة العمر وتأخير الشيخوخة، أو توليد كائنات حية في حاضنات اصطناعية، أو التلاعب بالبرنامج الوراثي لتعديل خصائصه..

أو من حيث استخدام "كاميرات تخييلية"، تجعل شفافاً ومرئياً ما يدور في الدماغ من أنشطة فكرية، أو استخدام نماذج الحاسوب والبرامج الإلكترونية، لمضاعفة قدرة الذهن على التذكر والتعلم والتخيّل والاستنباط.. هذا فضلاً عن أن الدخول في العصر الرقمي والواقع الافتراضي، فتح أمام البشر إمكانات مذهلة، أفضت إلى أعلمة المادة وعولمة الكوكب، بقدر ما أتاحت لهم الاتصال والعمل من على بُعد.

أكثر من ذلك؛ فما يحدث من تحولات وانقلابات معرفية وتقنية، يتعدى مسألة تعديل الخارطة الوراثية أو استخدام التقنيات الرقمية في مضاعفة القدرات، نحو مرحلة جديدة تقوم على ردم الهوة بين المادة والحياة، بين الجامد والعضوي، بإقامة نوع من التهجين بين الإنسان والآلة، لإنتاج كائن جديد (Cyborg)، هو ما يسمونه "ما بعد الإنسان".

هذا ما يفكر فيه الأميركي راي كورزوايل، الذي اخترع حواسيب ذكية قادرة على التعرف إلى الأشكال والأصوات، والذي يعتقد أن بالإمكان، في مستقبل ليس ببعيد، صنع آلات ذكية تتفوق على ذكاء الإنسان.

أو على صهر الآلة مع الجسم البشري، لتوليد قدرات قصوى تمكن هذا الجسم من تغيير قطعه، أو إصلاح ذاته آلياً، بل تتيح لصاحبه مغادرته، وذلك بشحن ذهنه، من على بُعد، على ديسكات تضمن له الخلود. من هنا يبشر كورزوايل، بإنسانية جديدة متحررة من أثقال المادة.

كل ذلك ينعش الآمال القديمة بالتغلب على المرض والعجز والنفاد، بل على قهر الموت بالذات. وبصرف النظر عما إذا كانت هذه التوقعات أو السيناريوهات التي فكر فيها دعاة ما بعد الإنسان، هي من قبيل الأحلام أم الكوابيس، فما أصبح محققاً هو أن التقنيات الجديدة تشكل قفزة نوعية في سيرورة البشر، تبعث على القلق بقدر ما تثير أسئلة فلسفية وأخلاقية حول معنى الإنسان ومسؤوليته ومصيره، كما يرى الفيلسوف البريطاني نيك بوستروم.

من جهته، يرى الفيلسوف الفرنسي جان ماري بسنييه، أن أهم ما يتميّز به الإنسان هو وعيه بهشاشته التي تشكّل الحدّ الفاصل بينه وبين الآلة، والتي هي قوام التنظيم الاجتماعي. فإذا كان البشر يتواصلون مع بعضهم، فلأنهم في نظره كائنات هشة ومكلومة. أما أن نفكّر بإنسانية من دون جراح أو نقص، فإنها ستكون مغلقة على نفسها.

وهو ما سعت إليه المجتمعات الشمولية. من هنا يخلص بسنييه، إلى القول اننا كائنات نرغب. أما ما يطمح إليه دعاة ما بعد الإنسان، أي الوصول إلى كائن سوبر يكون فائق القدرة أو خارقاً للطبيعة، فإنه يشكّل مقتلاً للرغبة، وعندها لا يعود من معنى للكلام على الإنسان. فالذي يخترع آلات ذكية، لن تصبح آلاته أذكى منه.

أما الفيلسوف روجيه بول دروا، والصحافية مونيك أتلان، فإنهما يعتبران أن الثورات الإلكترونية والإدراكية والبيولوجية، قد خربطت الحدود وخلطت الأوراق، لكي تفتح آفاقاً جديدة في ما يخص قدرات الإنسان ومصائره.

وعلى نحو يجعلنا نتجاوز التقسيمات القديمة والحديثة بين المعدن والنبات والحيوان والإنسان، بل بين الجسد والروح، ذلك أن الفروق بين هذه الكيانات لم تعد بالنوع والجوهر، بل بالدرجة والمستوى، الأمر الذي يكسر الأطر المعرفية، التي كان الإنسان يعرف من خلالها نفسه ويقلب النظرة إلى وضعيته الوجودية.

ولكن ذلك لا يعني غياب ما يتميّز به الإنسان من وعي وذاكرة وعاطفة. فالتحولات الجارية لا تلغي فرادة الإنسان، بل تحمل على إعادة تعريفها وتقييمها وصوغها. ولذا يخلص الكاتبان إلى القول بأنهما على قناعة، بأن الإنسان سوف يبقى الكائن الوحيد القادر على استخدام اللغة المفهومية وممارسة الفكر النقدي، وعلى الإنتاج الثقافي أو التعبير الفني والسياسي؛ كما سوف يبقى المسؤول عما يحدث له أو يصنعه، بحيث لا تفلت التقنيات عن السيطرة.

وبالطبع هذا رهان، لأن المستقبل مفتوح على جميع الاحتمالات، بما فيها زوال الإنسان وعدم قدرته على البقاء، كما يذهب إلى ذلك الفيزيائي هيوبير ريفز، الذي يعتقد أن السلاحف التي وجدت من 200 مليون سنة، قد تكون أكثر حظاً من الإنسان الذي وجد منذ بضعة ملايين من السنين، إذ هي استطاعت الصمود رغم تقلبات الطبيعة، فيما الإنسان لا يحسن سوى تدمير علاقته بالبيئة والطبيعة.

أياً يكن، فالرهان هو ثمرة حرية الإنسان، وقدرته على التمييز والاختيار بين البدائل والحلول في مواجهة الصعاب والتحديات. ومعنى الحرية هنا أن لا يقع الإنسان، لا أسير الطبيعة ولا أسير مصنوعاته وآلاته.

وما أرجحه في النهاية، هو أن الإنسان الذي يمتلك القدرة على معرفة الكائنات والتعريف بها، عبر وصفها وتصنيفها، إنما يندّ عن التعريف والتصنيف، إذ هو قادر دوماً على خرق الشروط وتجاوز الحدود وكسر النماذج. وتلك هي المفارقة؛ فالذي يشتغل بفك الألغاز ليس قابلاً للتفكيك، إلا إذا كان يكتب بذلك نهايته.

 

Email