من نهاية التاريخ إلى مستقبل التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو فوكوياما في مقالته الأخيرة في مجلة «فورين أفيرز»، باحثاً عن معنى جديد للتاريخ ينتشله من المأزق الكوني العميق الذي تلاحقت أزماته المالية منذ العام 2008 وحتى الآن. فالثقة التي تناول بها فوكوياما واقع الليبرالية الغربية في مقالته الأولى عن «نهاية التاريخ» في العام 1989، الذي شهد سقوط الشيوعية، قد تلاشت في مقالته الراهنة وهو يبحث عن مخرج يواجه به التحديات الهائلة التي تواجهها المجتمعات الغربية.

واللافت للنظر في تناول فوكوياما، أنه يحاول أن يطرح حلاً من داخل هذه المجتمعات يراه بالمنطق نفسه، القار في نهاية التاريخ، صالحاً لكل المجتمعات، بغض النظر عن طبيعة السياقات الاجتماعية والخلفيات الأيديولوجية والثقافية. لكن واحدية الرؤية التي صاغت نهاية التاريخ، لم تستطع أن تواصل مسارها في مستقبل التاريخ، فما يواجهه الغرب على وجه الخصوص يحتاج من المرونة الأيديولوجية والحصافة الفكرية، القدر الكبير الذي يمكن من عمق التحليل وبراعة التفسير ونجاعة الحلول

. فلم تعد التحزبات الفكرية الصارمة مفيدة في سياق الرغبة في مواجهة الأزمات المالية، التي تجاوزت جغرافية الانتماء الغربي إلى ساحة الكون الإنساني. فالتحديات التي يواجهها العالم الآن أكبر من أن يستوعبها إطار فكري بعينه، وأعمق من أن تفسرها توجهات نظرية محددة؛ فنحن الآن نحتاج لقدر كبير من المواءمات الفكرية التي يمكن أن تجمع بين أطر نرفضها وأطر أخرى نرتضيها. وربما جاءت مقالة فوكوياما لتعبر عن هذه الصيغة التصالحية في التفكير، رغم أنه ما زال يدافع عن الليبرالية ومتطلباتها المختلفة.

لا يحاول فوكوياما أن يعرض تصوراً فكرياً جديداً ومغايراً تماماً للرأسمالية؛ فالهدف الرئيسي الذي ينطلق منه لصياغة مستقبل جديد للتاريخ، يرتكز على وضع ضوابط جديدة للرأسمالية الهشة، التي ظهرت ضعيفة ومهترئة وآيلة للسقوط في أعقاب الأزمة المالية الحادة عام 2008.

هذه الضوابط تنطلق من جوهر المجتمعات الرأسمالية، وأعمدتها الرئيسية النابعة من الديمقراطية الليبرالية التي يراها فوكوياما الأكثر انتشاراً حول العالم الآن، بسبب استجابتها للعديد من الأبنية السوسيواقتصادية، والسهولة التي تتمتع بها أثناء التطبيق. فحالة الانتشار الهائلة للديمقراطية الليبرالية، جعلت فوكوياما يرى أنها النموذج الأيديولوجي الوحيد الذي اكتسب مساحات جغرافية هائلة طوال القرون الثلاثة الماضية، متجاوزاً في الكثير من الأحيان قوة وزخم الأيديولوجيات الدينية التي لم يهدأ لها بال ولم تخف وتيرتها في أي حقبة زمنية أخرى.

ومما يجعل من الديمقراطية الليبرالية الأيديولوجية الأكثر انتشاراً في العقود الماضية، الضعف الشديد الذي انتاب الفكر الماركسي، والذي وصل إلى أوجه إبان السقوط المزري للشيوعية عام 1989. فالضعف الشديد الذي انتاب الفكر اليساري، سواء في أميركا أو أوروبا، أدى به إلى حالة مخيفة من الجمود الفكري والمؤسسي، وهي مسائل ظهرت تجلياتها بشكل واضح، في ضعف نموذج التنمية الخاص بدولة الرفاه القائم على اتباع البرنامج الاجتماعي الديمقراطي، الذي يركز على توفير الدولة لمجموعة متنوعة من الخدمات، مثل معاشات التقاعد والرعاية الصحية والتعليم.

وعند هذه النقطة تبرز مسألة على قدر كبير من الأهمية في تحليل فوكوياما، ترتبط بعدم قدرة المجتمعات الاشتراكية على خلق طبقات عمالية حقيقية وفقاً للنموذج الماركسي؛ فما حدث أن التحولات توجهت نحو خلق طبقات وسطى أكثر استفادة وتحقيقاً لمصالحها الخاصة.

وهو أمر أدى بالتالي إلى تحول شعبي كبير نحو اليمين، بديلاً عن التوجهات اليسارية. ولعل ذلك هو ما جعل فوكوياما ينقل ما قاله إرنست جيلنر، من أن «رسالة اليقظة كانت موجهة للطبقات، ولكن بسبب بعض أخطاء التسليم الفادحة، فقد تم توصيلها إلى الأمم»، وهو أمر يكشف عن تحول كبير من الفكر الطبقي الماركسي إلى الفكر القومي الذي اجتاح أوروبا، وكثيراً من مناطق العالم المختلفة.

ورغم نقد فوكوياما للفكر اليساري، فإنه ينطلق من ذلك إلى نقد الفكر الديمقراطي الليبرالي ذاته؛ ففوكوياما المأزوم بفعل الكوارث المالية المتلاحقة، يبحث عن مخرج، وهو ما وسم مقالته بنوع جديد من المرونة التحليلية والإمكانيات النقدية غير المسبوقة بالنسبة لانتماءاته الأيديولوجية. فعلى الرغم من نقده للفكر اليساري، فإنه يستخدم منطلقاته الفكرية ذاتها لينتقد الوضع في المجتمعات الغربية، التي سطت فيه النخب المستفيدة على حصيلة إنتاجية المجتمع وثرواته المختلفة. من هنا فإن فوكوياما يرى بوجوب إنهاء سيطرة جماعات المصلحة في المجتمعات الغربية.

وإفساح المجالات التعليمية والتكنولوجية أمام الطبقات الوسطى التي عانت ركوداً غير مسبوق في العقود الماضية، وهو أمر يرى من خلاله إمكان إنقاذ المجتمعات الغربية نفسها. ووفقاً لتحليلاته، فإن مواصلة حالة عدم المساواة سوف تزيد الأمر تعقيداً وتفضي إلى المزيد من الكوارث المالية. فلكي ننقذ هذه المجتمعات ومن ثم الأوضاع الكونية المتدهورة، فنحن بحاجة لنمو اقتصادي فعلي وحقيقي، وتغير اجتماعي واسع المدى، وهيمنة أيديولوجية ليبرالية ديمقراطية.

والسؤال هنا: هل تحقق السنوات المقبلة تصورات فوكوياما الجديدة نحو مستقبل مشرق للتاريخ على أكتاف الطبقات الوسطى أم لا؟ سؤال سوف تجيب عنه السنوات المقبلة، في ظل التلاحق المستمر للأزمات الكونية، التي إن استمرت فسوف تكون نتائجها كارثية ومدمرة لتاريخنا البشري المأزوم.

Email