الإبادة الجماعية بين الواقعية والتوظيف السياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

وافق البرلمان الفرنسي الأسبوع قبل الماضي على تجريم من ينكر واقعة «إبادة الأرمن» إبان الحرب العالمية الأولى. في تلك الحرب اتخذت القيادات الأرمينية موقفاً سياسياً وعسكرياً مناوئاً للدولة العثمانية، بالتوافق مع الخصم الروسي في الحرب. لا ينكر الأتراك حدوث مجازر وانتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق غير عادي، لكنهم يتهمون السياسيين الأرمن بالمبالغة بهدف التوظيف السياسي لصالح القضية الأرمينية السياسية من أجل كسب تعاطف دولي واسع، السياسيون الأرمن يوصِلون أعداد الضحايا إلى أرقام خيالية في تلك الأيام.

هنالك أراضٍ أرمينية اقتطعت من الدولة الأرمينية وأُلحقت بتركيا وأذربيجان وبقيت موضع نزاع مزمن، تطالب أرمينيا باستعادتها كلما سنحت فرصة بذلك. أحياناً استخدمت أرمينيا القوة مثل استعادة السيطرة على إقليم «ناغورنوـــ كاراباخ» من أذربيجان، بدعم عسكري روسي حاسم. لا تستطيع أرمينيا فعل الأمر ذاته حيال تركيا بسبب اختلاف المعادلات الإقليمية والدولية في الحال مع تركيا. إلا أن أرمينيا قادت حرباً شرسةً تركزت في نهاية القرن الماضي ضد تركيا باستخدام ما كان يُعرف بــ «الجيش السري لتحرير أرمينيا». فقدت تركيا أعداداً من الرسميين والمدنيين خاصةً من السلك الدبلوماسي التركي، في الداخل والخارج.

يتولى الحكم في تركيا الإسلاميون بعد انتخابات عامة أوصلتهم لقيادة البلاد. السياسيون في الغرب لهم تحفظاتهم على وصول متدينين للسلطة السياسية، خاصةً في العالم الإسلامي. ينتهزون الفرص للعمل ضد تلك الأنظمة، وبشكل دبلوماسي وإعلامي.

يقود الأوروبيون حملةً ثقافيةً وإعلاميةً ضد التدين الإسلامي. فرنسا بقيادة الرئيس نيكولا ساركوزي لها عدة أعمال في هذا السياق أهمها منع ارتداء الزي الإسلامي أو الحجاب في التجمعات العامة والمؤسسات الحكومية.

الشارع الفرنسي لا يطيق رؤية فتاة أو امرأة محجّبة تسير في الشارع أو تقود سيارة، أو تتلقى محاضرةً في صف جامعي. لم تصغ الحكومة الفرنسية لكافة النداءات من الداخل الفرنسي والخارجي الإسلامي والدولي لوقف تلك السياسة العنصرية.

ربما يكون الأتراك على حق في أن آخر من يحق له التحدث عن الإبادة العرقية هي الحكومة الفرنسية، وبالذات بقيادة السيد ساركوزي. سجل فرنسا التاريخي الاستعماري الإمبريالي في حقوق الإنسان معروف، وفي كافة الدول والمجتمعات التي خضعت للاستعمار الفرنسي.

 في ذلك السياق هنالك أكثر من مليون جزائري قضوا في ظروف إبادة عرقية على أيدي الجيش والمستوطنين الفرنسيين. ثمة لماذا اختيار التوقيت الحالي لتوجيه تهمة الإبادة العرقية ضد الأرمن بعد مضي ما يقارب القرن من السنين عليها. لم تجر أية دراسة محايدة عن ظروف وحجم الكارثة الأرمينية، في حين أن هنالك دراسة موثّقة عن حجم وظروف مأساة الضحايا الجزائريين.

المواقف الفرنسية تجاه انتهاكات حقوق الإنسان تتسم بالانحياز. في فرنسا يُجرَّم من ينكر المحرقة النازية ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. يُضاف إليها الآن من ينكر الإبادة التركية! (العثمانية سابقاً) ضد الأرمن. لكن لا يوجد نظير هذا القانون ينتصر لحقوق ضحايا «ضحايا النازيين».

بالذات أين الموقف الرسمي الفرنسي من حقوق الشعب الفلسطيني، الوطنية والثقافية والتاريخية والحضارية والإنسانية، التي تُنتهك يومياً وعلى مدار الساعة ولحين من الدهر يقارب القرن من السنين؟!. لا يوجد عاقل ينكر على الغير حقوقهم في العيش بكرامة وسلام ويسر في أوطانهم، الأرمن وغير الأرمن. لكن لا أحد عاقلاً يقبل بالانتقائية في تطبيق هذا المفهوم، على أناس واستثناء آخرين منه.

من المؤسف حقاً أن السياسات الدولية عموماً وللدول الكبرى خصوصاً تُبنى على مفاهيم ضيقة، بدافع اختلاف الدين أو المذهب أو الثقافة أو السياسة. آن الأوان لوضع قانون كوني ثابت يحفظ حقوق الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وحضاراتهم وثقافاتهم وطرقهم في العيش. دولة لها وزن دولي بحجم فرنسا، وذات ثورة تاريخية رفعت شعار العدل والمساواة والأخوّة، يجب أن لا تتصرف كمجموعة ضيقة الآفاق فكرياً وثقافياً وسياسياً. لا يعني ذلك أبداً التنكر لحقوق الأرمن، في أرمينيا الأم وخارجها؛ لكن الحفاظ على مستوى وشرف المصداقية بات ذا أهمية بل وأولوية.

Email