ازدهار الكتاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

فيما كنت أتجول في معرض الكتاب، بيروت، يبادرني صاحبي الذي لم أره منذ فترة بالسؤال عن الأحوال، فأقول له: أنا بخير ما دام الكتاب بخير.

هذا جواب متوقع من شخص يأتي الكتاب في رأس أولوياته وباتت الكتابة لعبته. فأنا أقضي شطراً كبيراً من يومي، قارئاً أو كاتباً، أقرأ في كتب غيري وأفيد منها، أو أكتب لأعد مؤلفاً جديداً يقرأ فيه سواي.

بالطبع ليس الكتاب شأناً يخص الكتّاب وحدهم، وإنما هو من مفردات الوجود بالنسبة لكل إنسان، لاسيما في هذا العصر حيث التعليم بات إلزاميا، وحيث العمل في أي حقل بات يعتمد على المعرفة أو على القراءة على الشاشة. والمعرفة هي مورد للثروة بقدر ما هي مصدر للقوة. ومن يعرف يصبح أقدر على إدارة واقعه وعلى التعامل مع محيطه بصورة إيجابية وفعالة، أضف إلى أن المعرفة، بما هي، تنوير وكشف، هي مصدر متعة وفرح بالوجود.

أعود إلى معرض بيروت العربي والدولي للكتاب، الذي هو أقدم المعارض في العالم العربي، إذ مضى على إنشائه 55 عاماً. ومعرض الكتاب يتعدى كونه سوقاً للكتب. إنه نشاط متعدد الأبعاد، متداخل المهام. إذ هو في أبسط معانيه فرصة لمن يقرأ للاطلاع على الجديد الذي يصدر، ودعوة لمن لا يقرأ للدخول في عالم الكتاب لاختباره والتبادل معه، ففي ذلك اكتساب خبرة ومعرفة. وهو يشكل من جهة ثانية مكاناً يلتقي فيه الذين يشاركون في صناعة الكتاب: المؤلف والناشر، والقارئ، وربما المسؤول السياسي، لكي يتداولوا في شأنه. ويشكل، من جهة ثالثة، نشاطاً ثقافياً يتجلى في ما يقام على هامشه من أمسيات شعرية أو ندوات فكرية. فضلاً عن حفلات توقيع الكتب من جانب مؤلفيها، وقد أصبحت من عدة الشغل وطقساً من طقوس المعارض.

والمعرض ينعقد هذه السنة، في أجواء استثنائية، بعد اندلاع الثورات العربية. وقد تجلى ذلك في الندوات التي خصصت للحديث عن هذه الثورات أو في الكتب التي ألفت بشأنها. بل إن إحدى الدور استلهمت شعار الثورة، فكتبت في واجهتها: الشعب يريد الكتاب. وأخيراً يشكل المعرض فرصة لكي يلتقي من لا تتيح لهم الظروف اللقاء والاجتماع. وقد يجمع بين الأضداد، إذ التقى هذا العام، في جلسة الافتتاح، رئيس الوزراء نجيب ميقاتي الذي افتتح المعرض، ورئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة، وكان أيضاً رئيساً سابقاً للنادي الثقافي العربي الذي ينظم المعرض منذ بدايته.

هل الكتاب الورقي يتراجع أمام الكتاب الإلكتروني؟ لا أعتقد. تشهد على ذلك الإحصاءات. فإن بعض الكتب تطبع بأرقام قياسية تصل إلى ملايين النسخ، كما توزع روايات الكاتب الياباني هوراكي موراكامي، هذا مع أن اليابان هي مجتمع مؤعلم وبلد سباق في الإنتاج الإلكتروني. وهذا شاهد على أن الكتاب يزدهر وينتشر.

ويتوقف ازدهاره على المعنيين به بالدرجة الأولى. أولاً المؤلف الذي يجدر به أن يعد كتاباً حسن التأليف، يشكل في بابه إضافة قيّمة أو إضاءة كاشفة أو مساهمة مبتكرة، بحيث يكون مصدر غنى أو منبع دهشة ومتعة.

 ثانياً الناشر الذي يفترض فيه التعامل مع الكتاب كقيمة ثقافية بحيث يعمل على إخراجه بصورة متقنة بقدر ما يهتم بتسويقه بصورة لائقة. ثالثاً الناقد المسؤول عن تقديم الكتاب، والذي يفترض أن يتحلّى بالنزاهة والإنصاف، بحيث لا يحجب النتاج الذي يستحق الثناء، ولا يثني على الكتاب الذي لا يستحق. رابعاً القارئ، إذ القراءة ليست مجرد تسلية، وإنما هي خبرة، وكل خبرة هي جهد ومراس. وأخيراً، هناك حقوق الكتاب، لاسيما ان حقوق الملكية لا تحترم كثيراً في البلدان العربية، كما تشهد أعمال السطو على نتاج المؤلفين، لاسيما من قبل بعضهم البعض.

أبقى في مجال النشر، لأتحدث عن الوجه الآخر للكتاب، أعني الصحف والمجلات، بوصفها مصدراً للمعلومة والمعرفة. وقد أتيح لي أثناء زيارتي الأخيرة لإمارة دبي أن ألتقي في مكاتب صحيفة «البيان» الأستاذ عمر العمر سكرتير التحرير.

وكان بيننا حديث قدم فيه الأستاذ لمحة عن الصحيفة: ولادتها والمراحل التي مرّت بها واستراتيجيتها في العمل. من جهتي شرحت فكرتي التي ألمحت إليها في مقالة سابقة من هذه الزاوية، حول تطوير عمل الصحف والمجلات، من خلال إصدارها ملاحق أسبوعية أو شهرية تهتم بقضايا الساعة وبالمشكلات العالقة أو المعقدة التي تستأثر باهتمام الناس في العالم العربي أو في العالم عموماً.

والمشكلات باتت كثيرة بقدر ما هي متراكمة ومزمنة. وفي ذهني تجارب حيّة في هذا الخصوص، يمكن استلهامها والاستفادة منها. فالصحف والمجلات في فرنسا تكاد تتحوّل إلى مراكز لإنتاج المعارف لكي تنافس الجامعات ومراكز الأبحاث.

وأتوقف في مثال أول عند صحيفة «لوبوان» الأسبوعية التي تصدر كل شهر أو شهرين كتيباً تخصصه لمعالجة قضية من القضايا أو للكلام على واحد من مشاهير المؤلفين. ويضم كل كتيّب أبحاثا ودراسات، أو حوارات وشهادات، أو نصوصاً ومقتطفات، فضلاً عن الفهارس والتعريفات المختصة بالمصطلحات وأسماء الأعلام، بحيث ان من يطلع على الكتيب يفوز بمعرفة وافية وغنية تتطرق إلى الموضوع من مختلف زواياه وجوانبه.

وفي مثال آخر أتوقف عند صحيفة «لوموند» اليومية التي تصدر ملاحق دورية حول مختلف القضايا، وقد صدر منها، حتى الآن، في مسألة الدين وحده، أكثر من عشرة ملفات. وبالطبع فهي لا تقارب الموضوع على سبيل النفي والاستبعاد، ولا على سبيل الترويج والتبشير، بل تقاربه على سبيل الفهم والتشخيص للظاهرة الدينية.

واللافت في هذا الخصوص أن الذين يشاركون في هذه الملفات هم من كبار المؤلفين ومشاهير الكتاب من الفلاسفة والعلماء وذوي الاختصاص والعاملين في الجامعات أو مراكز البحث. وهؤلاء يؤلفون، بالطبع، كتباً من الوزن الثقيل لا يقرؤها سوى المختصين أو الراسخين في هذا العلم أو ذاك. ولكنهم عندما ينشرون في المجلات والصحف، إنما يكتبون على نحو مختلف، إذ الواحد منهم يختصر دراسة معمّقة أو كتاباً مطولاً في مقالة معدودة الصفحات، تعالج موضوعها بصورة غنية وكثيفة، ولكن مكتوبة بلغة سلسة وميسرة.

وهكذا نحن إزاء نوعين من الإنتاج في مجال الثقافة والفكر، على غرار ما نجد في الإنتاج المادي: الإنتاج الثقيل الذي يقتصر على أهل الاختصاص في كل مجال. والإنتاج الناعم الذي يصل إلى عموم القراء. وما أحوجنا إلى مثل ذلك في العالم العربي، فيما القضايا كثيرة، من مسألة النهضة إلى قضية الثورة، وكلها تحتاج لأن تقارب مقاربات جديدة ومختلفة، يشارك فيه مؤلفون وكتّاب من مختلف الاختصاصات.

 

Email