سواء قبلتها أو رفضتها فقد حدثت

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبرز أزمة الواقع العربي الآن في الموقف من الثورات العربية التي طالت العديد من الشعوب العربية؛ فالواقع العربي المنهزم، لم يكن يعتقد أن تتحرك الشعوب العربية، وتقذف بالسلطات المتربعة على عروشها منذ عقود طويلة من الزمن.

كما أن الشخصية العربية الخانعة في أحضان الأبويات الشائخة لم تكن تتصور، مجرد تصور، بإمكان أن تزاحم الرعية الراعي وتناطحه سلطاته، بل وتزيحه جانبا إما هاربا أو في قفص الاتهام أو مقتولا. كما أن القمع العربي المستشري بدرجات غير مسبوقة لم يكن يدور بخلده أن تتحرك تلك الجموع الغفيرة لتواجه آلة الجلاد باحثة عن توق الحرية أو نيل الشهادة وفقا للمزاج العربي الأخروي.

 وكعادة العرب حينما يحتاجون لفترات طويلة كي يستوعبوا ما حدث، فإن الموقف من الثورات العربية التي حدثت، مازال رهن الاستيعاب سواء في المحيط العربي العام أو في المحيط الداخلي للدول التي حدثت فيها هذه الثورات أو على الأقل البعض منها. على مستوى الدول التي حدثت فيها الثورات يمكننا أن نستشهد بالحالة المصرية لنرصد الأسباب التي دعت البعض لعدم استيعاب ما حدث أو عدم فهمه. ولكي نفهم هذه الأسباب فإن علينا البدء من بنية التخلف ذاتها، بشقيها السياسي والاقتصادي على السواء.

ففي الدول التي تعاني من مستويات قمع غير عادية، ومن تخلف اقتصادي غير مسبوق يرتبط بمستويات فقر هائلة وبكفاح يومي من أجل لقمة العيش يتخلق لدى الفرد المواطن نوعا من الاعتياد والارتباط بمجريات هذه النوعية من الحياة.

وبالتالي يصبح الإشباع المادي هو المطلب الأساسي بحيث لا يتوفر لديه أي قدر من الوقت في التفكير في ما يحدث له ويجابهه. صحيح أن هناك بعض الأصوات النخبوية التي تفكر له هنا وهناك وتحاول أن تخلق مساحات وعي جديدة، لكنها لا تؤثر في الفضاء العام إما بسبب صعوبة التواصل مع الأعداد الهائلة من المواطنين كما في الحالة المصرية، وإما بسبب صعوبات التواصل الفكرية مع القاعدة الشعبية من الفقراء والأميين، وإما بسبب الملاحقات لهؤلاء من قبل السلطات الأمنية.

وفي هذا السياق لا يصبح أمام الفرد سوى مواجهة الحياة اليومية بكافة الإمتهانات التي يتعرض لها يوميا سواء من قبل السلطات الأمنية أو سعيا وراء لقمة العيش أو حتى من جيرانه الذين يفوقونه عددا وقوة. وفي وسط هذا العالم تقدم بعض الجماعات الدينية خلاصا أخرويا من نوع آخر يفوق في نجاحه ما يقدمه أصحاب الأفكار الأخرى مثل الليبراليين أو اليساريين بسبب بساطته وارتباطه بالمزاج العام للفقراء، وارتباطه أيضا ببعض المكاسب والمساعدات الدينية التي يوفرها الإسلاميون للفقراء في الكثير من المناطق الشعبية.

ووسط هذه العوالم المختلفة التي تُهدر فيها كرامة الفرد، حتى وهو ينسجم مع بعض الجماعات الموافقة لأفكاره، يجد نفسه يثور لأول مرة في حياته، أو يجد نفسه ضمن بحار متلاطمة من البشر لا يعرفها ولا تعرفه، يخلق معها ومن خلالها أجواء جديدة من التغيير العفوي الذي لا يعرف نتائجه ولا يعرف مداه ولا يعرف إلى أين يؤدي وبماذا يعود عليه.

لذلك فمن المضحك جدا على سبيل المثال في ثورة المصريين أنهم كانوا يتوقعون انتهاء سريعا جدا للثورة وتحقيقا غير مسبوق للمكاسب وقضاء مبرما على الفساد، هكذا بجرة ثورة وخلال عدة أشهر تتضخم الأحلام وتزداد التوهمات. وما حدث أن البعض توقف عن الفساد لفترة ليعود إليه، وأن البعض مل الثورة، وأن البعض الآخر مازال يسائل نفسه عما حدث.

في زحمة هذه التساؤلات ينسل المتربصون، كارهو الثورة، الخاسرون منها، لينشروا حالة من اليأس ومن التحسر على ما فات، خصوصا في ظل الإعتصامات والمواجهات مع الجيش والشرطة، وفي ظل الخسائر البشرية التي يدفع ثمنها الثوار نساء ورجالا. وفي ظل هذا الوضع يفيق الجيش على حالة جديدة لم يعهدها من قبل، وأعني توجيه النقد له بشكل لم يحدث حتى في أعقاب هزيمة 1967. فالمصريون لأول مرة يهاجمون، بل يتطاولون، على قادتهم العسكريين، بشكل هائل وواسع المدى وغير مسبوق. فجأة وجدت القوة التي كانت بمنأى عن النقد نفسها في موقع المساءلة والنقد مثلها مثل أية قوة مجتمعية أخرى.

والواقع أن مشكلة هذه القوى المختلفة سواء من قاموا بالثورة أو من شاركوا فيها أو من حموها أو من يحاولون الانقلاب عليها الآن أنهم لم يستوعبوا ما حدث ولم يفهموا أننا أمام ثورة حقيقية ترتبط بتغيير العقول والأفكار والتوجهات، وأننا أمام وضع جديد يثير المساءلة والحساب، وأننا أيضا نحتاج لبعض الوقت والصبر حتى نتيقن من الفعل الثوري ومتطلباته. وحتى يحدث ذلك فعلى الجميع أن يفهم أن هناك ثورة قد حدثت في مصر، وفي بعض الدول العربية الأخرى، وعليه أن يتعامل معها سواء قبلها أو سواء رفضها، أو حتى تمنى زوالها.

Email