طبيب النفس وجنونه؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل كان عالم النفس جاك لاكان مجنوناً؟ لاكان (1901-1981) هو أحد مشاهير التحليل النفسي في فرنسا والعالم. كان الرجل صاحب مدرسة في هذا المجال، وله تلامذة وأتباع اقتنعوا بنظريته في فهم النفس، أو بمنهجه في معالجة الأمراض النفسية والعقلية، وكما تجلّى ذلك في مؤّلفه الضخم «كتابات».

وبعد مرور ثلاثين عاماً على رحيله، صدر له كتابان يشتملان على دروس وأبحاث كان قد ألقاها أو أعدّها ولم تنشر في حينه. وهذا ما أعاده إلى الواجهة، ليكون محل التعليق والسجال حول أعماله وسيرته.

وأنا لست هنا بصدد عرض آرائه، وإنما استوقفني الكلام الذي أورده الكاتب ميشال شنايدر، والذي قيل غداة رحيل لاكان، ومفاده أن الرجل أشرف على الجنون في آخر حياته، بشهادة الكثيرين من معارفه، كما ورد في مجلة Le Point الفرنسية.

والسؤال الذي يثيره هذا الوصف أو التشخيص، هو: هل من الغرابة أن المحلّل الكبير الذي يلجأ إليه مرضى النفوس، كان مصاباً بالمرض؟ هل نصدق إذاً أنه كان طبيباً يداوي الناس وهو عليل؟ أم أن في الأمر دعابة أو قولاً على سبيل المجاز، أو نوعاً من الافتراء والتجنّي؟

مثل هذه الأسئلة تعيدنا إلى رأي شائع، لدى العامة، وهو أن النفسيين، من علماء وأطباء، هم من غير الأسوياء. هذا على صعيد الثقافة الشعبية، ولكن لا نقلّل من هذا الرأي. فإن فرويد نفسه، المعلم الأول في هذا المجال، كان قد اشترط على الطبيب النفسي أن يخضع هو نفسه للتحليل عند أحد زملائه، بين الفترة والأخرى.

ولعلّ السبب في هذا الإجراء، هو إمكان التماهي بين الطبيب المعالج، وبين المريض الذي هو قيد المعالجة. صحيح أن الطبيب المحلّل هو الذي يؤثر في المريض، بما يفضي إلى تغييره واستعادته ثقته بنفسه، بتفكيك عقده وتحريره من كوابيسه وأشباحه. ولكن هناك وجه آخر في المسألة، وهو أن المريض المصاب بالعصاب أو الذهان، قد يؤثر في الطبيب على نحو عكسي، وبما يؤول به إلى التوتر والاضطراب أو العصاب، فيتحوّل من فاعل إلى مفعول به، ليصنع هواماته أو أشباحه وكوابيسه.

ومع ذلك، لن أقول بأن كلّ محلّل نفسي معرّض لأن يصاب بالعصاب أو الجنون. فهذا مؤسس التحليل النفسي، فرويد، بقي بكامل قواه العقلية وقدراته الفكرية التحليلية حتى آخر حياته.

فكيف نفسّر، إذاً، اعتلال جاك لاكان إذا صحّت الرواية؟ لا أفسّر ذلك بالأسباب الشخصية من توترات وصدمات، كما لا أفسّره بالعوامل الوراثية، وإنما أفسّره تفسيراً فلسفياً، بردّه إلى موقف لاكان من الحقيقة، وإلى نمطه الوجودي.

ولإيضاح ذلك، سأقارن بين فرويد، مؤسّس التحليل النفسي، وبين لاكان الذي هو بمثابة تلميذ للمعلم الأول أو تابع له. فقد كان فرويد، بوصفه مؤسّساً، خالقاً للحقائق. لقد اخترع ميدان التحليل، بتحويل اللاوعي وكل ما هو مكبوت، إلى حقل معرفي وإلى فرع طبي، في حين كان لاكان باحثاً عن الحقيقة، سواء حقيقة النفس، أو حقيقة الأصل، أي ما أنجزه فرويد وتركه.

وهناك فارق بين الاثنين؛ فالمؤسس لا يكتفي بالبحث عن الحقيقة، وإنما يقيم معها علاقة مركّبة وملتبسة، هي علاقة تجربة ومعرفة، بقدر ما هي علاقة لعبة وسلطة أو سياسة. من هنا فهو لا يتطرّف ولا يتعصّب، بل إنه قد يكسر القواعد ولا يلتزم بالمعايير التي اشترطها هو نفسه، ولا حتى بمعايير الصدق في القول. والدليل هو ما أورده الفيلسوف ميشال أونفراي عن فرويد، في كتابه «أفول صنم»، إذ لم يترك نقيصة خلقية إلاّ وألصقها به، كالكذب والخداع والتلاعب..

وهذا شأن المؤسسين، عموماً، للمذاهب والطوائف والملل. إنهم خالقون، فاتحون، لاعبون، بالدرجة الأولى. ولذا بوسعهم أن يغيروا أو يبدّلوا، من دون أن يتهموا بالخروج والمروق، لأن ما يفعلونه يغدو مبدأ أو قاعدة.

أستدرك بالعودة إلى لاكان، لأقول بأنه لم يكن مجرّد تابع مقلّد لفرويد، وإنما هو أبدع وجدّد في ميدان التحليل، في النظرية والمعالجة، وعلى نحوٍ مبتكر ولا سابق له، مستفيداً من منجزات الطفرة المعرفية التي عرفتها الفلسفة وعلوم الإنسان، تحت مسمّى «البنيوية»، التي شدّد أعلامها على الروابط والعلاقات، في فهم الهويات والماهيات؛ إذ الشيء عندهم لا يقوم بذاته، بل بنسبه وعلاقاته وإضافاته.

لقد أفاد لاكان من ذلك كلّه، وخاصة من الانعطافة اللغوية، ليعيد تأويل فرويد على نحوٍ جديد. فالتحليل كما افتتحه المؤسّس، يقوم على تحرير الكلام، بقدر ما يعتبر أن العلاج هو ذو بُعد لغويّ. هذا ما أدركه لاكان وقام بتوسيعه وتطويره واستثماره إلى الحدّ الاقصى، مما أهّله لأن يكون صاحب مذهب في التحليل. وكما تشهد على ذلك أقواله المأثورة وشعاراته الذائعة، مثل: اللاوعي هو ذو بنية لغوية، النظام الرمزي هو المنشئ للذات، المرض هو دال يرمز إلى غياب، الإنسان هو مفعول لا فاعل..

من هنا قول لاكان، الذي يقلب المقولة الديكارتية (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، بقدر ما يثير الإشكال والالتباس: أنا أفكر حيث لا أوجد، وأوجد حيث لا أفكر.

ولا غرابة، فإذا كانت اللغة تصنعنا وتتكلم عبرنا، وإذا كانت العلامات تحيل دوماً إلى غير ما تعنيه أو تخفي ما تحيل إليه، أو تنطق بخلاف ما تعلن، فإن ذلك يعني أننا لسنا أصحاب ذوات سيدة تتماهى مع فكرها أو تتساوى مع نفسها، بل هناك فجوة بيننا وبين فكرنا، خارجة عن نطاق التفكير، هي التي تقودنا إلى ما لا نريده أو تجعلنا نفاجأ بما لم نفكّر فيه.

ومن هذا المنطلق نفسه، يمكن فهم قوله الذي يشكّل محور أحد الكتابين الجديدين: «لا توجد علاقات جنسية». بمعنى أن الإنسان يخطئ الهدف دوماً. من هنا تعريفه الإشكالي للحب: أن نعطي ما لا نملكه لمن لا يريد أن يأخذه. وذلك هو المأزق الذي يجعل المحبّ يصل إلى ما لا يريده، أو يفاجأ بما لم يكن في الحسبان، أو يكتشف أن الشخص الذي أحبه ليس هو نفسه..

وما أعتقده هو أن ما أوصل لاكان إلى مأزقه، هو أنه في سعيه لفهم حقيقة اللاوعي، أو الرغبة، أو العلاقة الجنسية، قد بحث عن حقيقة أصلية، أو عن أساس راسخ، أو عن بنية ثابتة. وهذا محال، لأنه لا يوجد في النهاية سوى العلاقات والروابط. أما البحث عن مطلق أو نموذج أوحد يفسّر كل شيء، فإن مآله هو الإحباط، أو التعصّب، أو الجنون. وهكذا، فمن طلب الحقيقة المطلقة ضلّ عنها، أو استبد بها أو جُنّ من أجلها.

وما بوسعنا أن نفعله، هو الانخراط في تجارب أو خلق وقائع تتغير معها، دوماً، علاقاتنا بذواتنا وبالآخرين وبالعالم. وذلك هو الإشكال الوجودي: ما نظنّ أننا نملكه أو نقبض عليه أو نتيقّن منه، هو ما نتحول عنه أو نخفيه أو نفتقده أو نقوم بتحويله.

 

Email