دبّي وشقيقاتها.. نماذج عربية ناجحة في البناء والتقدم

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت زيارتي الثانية إلى دبي خاطفة هذه المرة، إذ وصلت مساء الاثنين وعدت صباح الأربعاء، أما يوم الثلاثاء فكنت أستعد لتسجيل حلقة تلفزيونية في برنامج "إضاءات" على قناة "العربية"، مع الإعلامي القدير تركي الدخيل. وهي تأتي بعد عشر سنوات على الزيارة الأولى، قطعت خلالها الإمارة الصغيرة أشواطاً في مسيرة نموها وتقدمها، وهي التي تعمل دوماً لكي تسابق الزمن المتسارع، محققة السبق على نفسها باستمرار، بحيث أن كل إنجاز يتحقق يشكل مكسباً ومنطلقاً لإنجاز جديد.

أول ما لفت نظري وأدهشني، فيما كنت أخرج من المطار، ليلاً، تلك الأبراج المتلألئة والمشيدة، مجموعة مجموعة، في أماكن متفرقة، وهي تناطح السحاب وتخرق السماء، بتشكيلاتها المختلفة وارتفاعاتها الشاهقة. ولا شك أن "برج خليفة"، الذي اختلست الوقت لمشاهدته، هو الأروع بينها، كما بدا لي، ليس فقط لأنه الأكثر ارتفاعاً، بل لأنه الأجمل والأبدع من حيث طرازه وشكله وإخراجه على هذا النحو الفريد، كشاهد على معجزة الخلق وآية الابتكار وتحفة الإنجاز.

وإنه لأمر خارق، أن تتحول بادية، خلال عقود قليلة، إلى أحدث تجمع مديني، حضري، عمراني، في العالم، وأن تصبح دبي مدينة كوسموبوليتية، بحداثتها الفائقة واقتصادها المزدهر وشبكة علاقاتها وتبادلاتها على المستوى الكوكبي، فضلاً عما تشهده من المؤتمرات والندوات، العربية والدولية، في مختلف الحقول والمجالات.

مثل هذه القفزة الحضارية، تؤكد صحة النظرية القائلة ان الطاقة هي أساس نشوء الحضارة والمدنية. فالنفط هو الذي وقف وراء هذه الطفرات والتحولات، التي تشهدها مدن الخليج. وتلك هي مفاعيل الذكاء البشري: العمل على المادة لتوليد الطاقة واستخدامها، منذ قدح الحجر بالحجر لتوليد النار في العصور البدائية، إلى تفجير الذرة لإنتاج الطاقة النووية في العصر الراهن، مروراً بكل أشكال الطاقة الأخرى التي عرفتها المجتمعات البشرية، وبالأخص توليد الكهرباء.

غير أن وجود المورد الحيوي ليس كافياً. الأمر يحتاج إلى الإرادة والقدرة، بقدر ما يحتاج إلى حسن التدبير والتيسير، وكما يتجلى ذلك في المبادرات الفذة والأعمال الخارقة في مختلف وجوه النشاط البشري. ثمة من يملك موارد قليلة، ولكنه يعمل على خلقها. وبالعكس، ثمة من يملك موارد هائلة لا يحسن سوى هدرها.

والشواهد ناطقة في العالم العربي. نحن إزاء نموذجين هما على طرفي نقيض، من حيث الأثر والمفاعيل والنتائج. النموذج الأول يعمل على نحو سلبي، عقيم، بل مدمر، كما تجسد ذلك في طاغية ليبيا الذي أهدر موارد بلده وبدد ثروته، وأحدث ما أحدثه من خراب في الأرواح والأجساد. هذا ما صنعه القذافي الذي كان يتباهى بأنه أتى من البادية. لكنه داس على قيمها، المتمثلة بالصفح والشهامة والمروءة...

النموذج الثاني يمثله حكام أحسنوا إدارة بلدانهم بأفكارهم الحية وعقولهم الفعالة، بقدر ما نجحوا في استغلال الموارد والمقدرات، بصورة مثمرة وبناءة، ترجمت في أعمال الإنماء والتحديث. ويأتي في طليعتهم الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي يدير إمارة دبي لكي تشهد كل هذا الازدهار والإشعاع الحضاري.

ولم يكن ممكناً لذلك أن يتحقق، لو لم يعمل الشيخ الحاكم بعقل متحرر من العقد والهواجس والحساسيات التي تتصل بالتراث والهوية، والتي تشل الطاقة وتعرقل مشاريع النمو والتقدم.

وهكذا، فمع أن حكام الخليج يقودون مجتمعات لا تزال تغلب عليها نزعة المحافظة، فإنهم اندرجوا في زمنهم وانفتحوا على حقائق العصر واستخدموا أحدث الوسائل، بقدر ما مارسوا هوياتهم، المحلية والعربية أو الإسلامية، بصورة عابرة، عالمية، كما فعل أسلافهم في عصور الازدهار الحضاري.

عندما أزور أي مدينة عربية، يسهل علي الحصول على الصحف والمجلات من البسطات المنتشرة في الشوارع أو من الأكشاك المنصوبة في الساحات والميادين، كما في القاهرة أو تونس. وفي بيروت ثمة عشرة أكشاك مخصصة لهذا الغرض في شارع الحمرا، هذا فضلاً عن المكتبات، وفيها يباع مختلف الصحف العربية والأجنبية. في دول الخليج يختلف الأمر، وكما هي الحال في دبي، إذ من الصعب الحصول على الصحف العربية التي لا توجد إلا في المخازن الكبرى. وما يوجد منها في الفنادق هو محدود، أي لا يغطي سوى نسبة ضئيلة مما تعرضه الأكشاك في أي مدينة عربية أو غربية. ولعل الأمر يعود إلى أن الذين يتحدثون أو يقرأون بالعربية، من السكان الأصليين أو العرب المقيمين، باتوا أقل عدداً من الوافدين والعاملين من ذوي الجنسيات المختلفة.

وأنا لا أثير هذه المسألة لكي أرفع الصوت عالياً حول الخطر المحدق باللغة العربية، فدبي هي في النهاية مدينة عربية بقدر ما هي عالمية. وأنا أعني بذلك أن ما يصدر فيها هي من المجلات والكتب، إنما يسهم في إنتاجه عرب ويُقرأ في العالم العربي مشرقاً ومغرباً، بالإضافة إلى أبناء الخليج. وكذلك هي حال المؤسسات والجوائز الثقافية، التي يسهم في إدارتها والاستفادة منها العرب في جميع أقطارهم.

ومثالي على ذلك مجلة "دبي الثقافية"، التي تحتفل هذه السنة بعيدها الثامن. فهي مجلة لكل العرب، بكتابها وقرائها والعاملين في إدارتها وإخراجها، فضلاً عن التحقيقات التي تنشرها حول مدن ومواقع عربية أثرية، شأنها بذلك شأن المجلات العربية الأخرى، التي ابتدأت مع مجلة "العربي" في الكويت قبل أكثر من نصف قرن.

وحسناً تفعل مجلة دبي، إذ تُصدر مع كل عدد كتاباً حول علم من أعلام الأدب والنقد والفكر. هذا مع الأمل أن يجري تطوير هذا الجانب، بحيث تصدر دراسات حول مشكلات الساعة الراهنة أو الساخنة، في العالم العربي والعالم.

ولا أنسى، بالطبع، جريدة "البيان" التي تصدر في دبي، والتي أكتب على صفحاتها منذ أكثر من سنتين، في زاوية أسبوعية أصبحت نصف شهرية، فهي جريدة عربية بكتابها وقرائها ومواضيعها واهتماماتها... والأمل أن يصار إلى توزيعها في بيروت، بحيث يقرأها اللبناني كما يكتب فيها.

وهكذا، نحن إزاء نتاج ثقافي، هو عربي بامتياز. بذلك تقدم دول الخليج نماذج ناجحة عن العمل العربي المشترك، بل هي تجسد اليوم الماركة العربية، بصورة مثمرة، بناءة، فعالة، أكثر من الدول التي رفعت لواء العروبة وتصرفت بوصفها مركزها، ولكن لتضرب الفكرة العربية الجامعة. وها هي الثورات العربية تنزع الوصاية التي مارستها تلك الدول على الشأن القومي، إذ تنتزع منها الأوراق العربية التي صادرتها ورقة ورقة، تحت هذا الشعار أو ذاك. وتلك هي المفارقة: فالعالم العربي يبنى ويتقدم ويتوحد، حيث لم ترفع شعارات العروبة والوحدة والتقدم!

 

Email