الجامعـة العربـية تقـول لا

ت + ت - الحجم الطبيعي

مَن كان يتصور أن تقول الجامعة العربية "لا" لأنظمة حاكمة في الدول الأعضاء المكونة لها وتقف في وجهها بأعمال عقابية؟ لا نتصور أن أحداً منا كان يتوقع مثل ذلك رغم أنها قد فعلتها في السابق في العام 1979 ضد مصر عندما وقعت القاهرة معاهدة سلام مع إسرائيل، عندها قامت الجامعة بتعليق عضوية مصر فيها وتم تحويل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس. إلا أنه وبعد تسع وعشرين سنة تأتي الجامعة بإجراءات لتعليق عضوية دولتين عربيتين في عام واحد هما ليبيا في فبراير الماضي وسوريا في هذا الشهر، واتخاذ إجراءات عقابية ضدهما.

ما من شك أن تلك القرارات كانت تاريخية بمعنى الكلمة، الأمر الذي يحتم علينا كمحللين أن نتوقف عند تلك الحالات لنفسرها. وسنتوقف هنا عند الحالة الأخيرة والموقف العربي من سوريا لتحليل الدوافع وراء خطوة الجامعة بتعليق عضويتها ومعاقبتها على عدم امتثالها لمطالب المنظمة العربية. وهنا نستطيع القول بأن هناك مجموعة من العوامل ساعدت الجامعة العربية على اتخاذ خطوتها الجريئة وهي:

أولاً، نجاح الثورات العربية، ولا سيما في مصر التي أصبحت تعيش اليوم فترة انتقالية نحو الانتقال بالبلاد من دولة حكم الفرد الواحد إلى دولة حكم الشعب من خلال إدخال الممارسة الديمقراطية الفعلية. فمصر اليوم ليست مصر حسني مبارك، فهي اليوم ذات مزاج داعم للحريات والحصول عليها، وليست كما كانت رافضة لها في عهد مبارك الذي كان بمثابة القوة المانعة ذي الثقل الكبير داخل أروقة الجامعة العربية لكل ما يمكن أن يزعزع استقرار الأنظمة العربية، حيث كان ذلك واضحاً في مواقف مصر الرافضة لمبادرات تغير الأنظمة العربية الحاكمة، كما كان مع العراق في عهد صدام حسين عندما لم تؤيد مصر المبادرات الداعية لتخليه عن الحكم مقابل منع التدخل العسكري الأميركي في ذلك البلد.

فسقوط نظام حكم الفرد في دولة محورية كمصر ساعد على تمهيد الطريق لسقوط أنظمة أخرى في المنطقة، كما حصل في ليبيا مع القذافي وما يحصل في سوريا وكذلك اليمن. فالقرار العربي بالوقوف ضد النظام السياسي السوري في ممارساته العسكرية ضد شعبه إنما جاء نتيجة لغياب الثقل المصري القادر على عرقلة مثل تلك التوجهات داخل الجامعة العربية.

ثانياً، انتقال مركز الثقل السياسي العربي - في المرحلة الحالية على أقل تقدير - من المشرق العربي إلى منطقة الخليج العربي؛ فانشغال مصر بترتيب بيتها الداخلي فتح المجال أمام دول الخليج العربية كالسعودية وقطر لأن تلعب دوراً أبرز في شؤون المنطقة العربية، بل ولتقود المبادرات العربية في بعض الحالات كليبيا واليمن والبحرين. والمعروف أن علاقات القذافي بالسعودية لم تكن إيجابية، مما جعل السعودية لا تقف في وجه التغيير في ليبيا. وذات الفكرة يمكن أن تطبق في حالة النظام السياسي السوري الذي اختلت علاقته بالرياض بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.

ثالثاً، الخشية العربية من التدخلات الأجنبية، لا سيما التي تعمل على دق ناقوس الخطر الطائفي في المنطقة، تجعل الدول العربية تخشى من استمرار حالة العنف ضد الشعب السوري الذي يطالب بحقه الإنساني في العيش بحرية. مثل هذا الخطر قد يؤدي إلى تعقد الأمور في سوريا وتحول الوضع هناك إلى حرب طائفية تؤجج الحالة الطائفية في العالم العربي، لا سيما في لبنان والعراق ومنطقة الخليج، وقد تؤدي إلى انتعاش الحركات الإسلامية المسلحة وتزايد عمليات التجنيد المسلح باسم الجهاد الإسلامي من المنطقة العربية نحو سوريا. لذلك فإن الخشية العربية من مثل هذا السيناريو هو الذي يكون أيضاً قد ساعد الدول العربية في الجامعة على اتخاذ الموقف العربي ومطالبه ضد النظام السياسي هناك.

ورابعاً، الرفض العربي للتدخل الإيراني في المنطقة العربية ومحاولة الحد منه من خلال إضعاف نظام الرئيس بشار الأسد الذي ومنذ مجيئه للحكم عمل على توثيق النفوذ الإيراني في المنطقة، لا سيما في لبنان وفي فلسطين، لذلك فإن القرار العربي بالضغط على نظام الأسد يكون قد جاء تعبيراً عن رفضهم لما تقدمه دمشق من دعم يرجح كفة المصالح غير العربية ويضر بأمن واستقرار المنطقة العربية.

من تلك التفسيرات يتضح بأن هذه الحالة العربية لم تأت داعمة للثورات الشعبية، بل جاءت لاعتبارات المصالح التي تفرضها الواقعية السياسية، حيث تلاقت مصالح الدول العربية مع مصالح شعوب بعض الدول الثائرة ضد أنظمتها فجاء الدعم لها، فهي أشبه بأن تكون حالة مرحلية مرتبطة بظروف المرحلة الراهنة، ومن الأرجح أنه ليس من المتوقع أن يكتب لها الاستمرار في دعم الثورات الشعبية في جميع الدول العربية، فإذا استطاعت الجامعة أن تقول "لا" لبعض الأنظمة كليبيا وسوريا فإنها قد لا تستطيع أن تنجح في قول ذات الكلمة ضد أنظمة عربية أخرى، ولعل موقفها السابق من الغزو العراقي للكويت أكبر دليل على ذلك، حيث إنها لم تتمكن حتى من تعليق عضوية العراق في الجامعة، رغم أنه خرق بند أساسي من بنود ميثاقها والمرتبط بعدم الاعتداء على دولة أخرى عضو فيها واكتفت بالإدانة.

Email