المحرك الأصلي للحضارة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أزور باريس للمرة الثانية، وفي كل مرة على حسابي، غير مدعّو من أي جهة أو مؤسسة؛ مع أن الكثيرين ممن يزورونها بدعوة من هيئات ثقافية، ليسوا على علاقة بالثقافة الفرنسية أوثق من علاقتي بها، بل إن منهم مع لا علاقة له بهذه الثقافة، ولكنهم يتقنون فن بناء العلاقات والروابط أكثر مني بكثير.

وباريس تأسرني بفرادتها الخارقة، بقدر ما تدهشني صروحها وطرزها ومعاهدها ومآثرها، من مبانٍ وقصور وجامعات ومكتبات ومتاحف وكنائس وحدائق ودور أزياء.. فضلاً عن ساحاتها العديدة، الواسعة والرحبة، بنصبها وتماثيلها التي تخلد المشاهير من رموز الأدب والفن والعلم والسياسة والحرب.. أما برجها المشهور على اسم مصممه (إيفل)، فإنه يمثل علامة العصر الصناعي والعقل التقني.

وأنا، فيما أعاين كل هذا الثراء الباهر والجمال الآسر، يقودني التفكير إلى بداية عصر النهضة، حيث خرجت الشعوب الأوروبية من سباتها الوسيط وعالمها المغلق، لكي تفتح آفاقاً لا سابق لها للوجود والحياة، تحت شعارات الإنسانية والعقلانية والحرية والتنوير والتقدم... وسواها من العناوين التي شكّلت الاندفاعة الخلاقة لهذه الموجة الحضارية الحديثة، والنقلة النوعية في تاريخ البشرية.

وهكذا، ثمة محرك أصلي وقف وراء الاكتشافات الجغرافية والفتوحات الفكرية والتراكمات المعرفية والإبداعات الفنية والابتكارات التقنية والصروح الحضارية.. هذا المحرك هو الذي جعل المجتمعات الأوروبية تمارس ديناميكيتها الوجودية وازدهارها الحضاري، عبر إنتاج المعرفة والثروة والقوة، الأمر الذي أتاح لها إعادة تشكيل العالم والتوسع خارج حدودها، بغزو بقية المناطق والبلدان، على الصعد العسكرية والثقافية والاقتصادية، مستثمرة بذلك منجزات الحضارات السابقة، ولاسيما اليونانية والرومانية، ثم العربية والإسلامية. ويشبه أن يكون هذا ما حصل للعرب من قبل، إذ خرجوا من جزيرتهم وهامشيتهم، بعقيدتهم وشريعتهم وأساطيرهم وأحلاهم الفردوسية التي شكّلت المحرك الأصلي، الذي جعلهم ينتشرون في العالم، ويبنون حضارة جديدة، استوعبت منجزات الحضارات السابقة وأضافت إليها.

ولكن الأحوال تغيرت اليوم، في فرنسا وفي أوروبا عموماً، إذ فقدت الشعوب حيويتها وخفت المحرك الأصلي. فالمواطن الأوروبي لم يعد يحركه حلم جمعي أو يجذبه الانخراط في مشروع وطني، من فرط طغيان النزعة الفردية، حيث كل واحد يبحث عن خلاصه بمعزل عن سواه. وبهذا المعنى، يقول الفيلسوف لوك فرّي: لا أعتقد أن هناك قضية مقدسة تدفع الفرنسي اليوم، لكي يضحي بحياته من أجلها.

لقد باتت المجتمعات الأوروبية مترفة، وهي تريد الحفاظ على مستوى عيشها ونمط حياتها، ولكن بالأقل من الوقت والجهد، وهذا ما لم يعد ممكناً في السباق الجاري على مسرح الأمم. الأمر الذي يفسر الأزمة الراهنة في فرنسا والاتحاد الأوروبي؛ أزمة الدين، والبنوك، واليورو...

ولعل ما يحدث، الآن، في العالم العربي، مع اندلاع الانتفاضات والثورات، هو على العكس بالتمام، من حيث قوة المحرك الأصلي والحلم الجماعي. فبعد أن بلغ الوضع منتهى البؤس، انفجرت المجتمعات، وخرجت الحشود إلى الشوارع، مؤثرة الموت على البقاء في ظل أنظمة الشر والفساد والاستبداد.

ولا شك أن هذه اللحظة الثورية، الفائقة، سوف تسفر عن ديناميكية وجودية تتجسد في نقلة حضارية يتغير معها مشهد العالم العربي، والعالم، مع الإفادة من حقائق العصر وعلومه وأدواته، ودعم منظماته الدولية وهيئاته المدنية.

ولهذا فإن ما يحدث لا يعني الأخذ بمقولة التناوب، كما قد يُظن: قوى تهيمن وأخرى تضعف، حضارات تأفل وأخرى تصعد. ففي ظل تشابك المصالح، تتعزز أكثر فأكثر مقولة وحدة المصير البشري، وعلى نحو يكسر ثنائية الصدام الحضاري والغزو الثقافي، لكي يفتح الأفق للتحاور والتداول والتبادل، بحيث يكون لكل قسطه ودوره في صناعة الحضارة وإدارة الشأن الكوكبي.

تخللت زيارتي إلى باريس، التي امتدت لعدة أيام، زيارة لمدة يومين إلى مدينة "لوند" في السويد، حيث يقيم ابني ويعمل. وتعد السويد، التي هي ملكية دستورية، من أرقى الدول، سواء من حيث احترام القوانين، أو من حيث فسحة الحريات، أو من حيث مستوى العيش ونوعية الحياة، وبالأخص من حيث كونها الأكثر اقتصاداً في ممارسة العنف. هذا فضلاً عن هدوئها وبعدها عن الصخب والضجيج. لقد شعرت وأنا في ضاحية "لوند"، أنني أُقيم في كوكب آخر لا علاقة له بعالمنا.

وهكذا تقدم السويد النموذج، سواء من حيث إدارة الشأن العام، أو من حيث طريقة توزيع الثروة، إذ تصل فيها الضريبة على الدخل إلى أعلى مستوياتها. وهذا مثال يشهد على أنه لا حرية من غير مسؤولية، من كل واحد تجاه كل واحد، في ما يخص، ليس فقط حقوقه المنصوص عليها في القوانين، بل أيضا حياته ومستوى عيشه. حتى في منطق "الرعية".

أياً يكن، وسواء اختص الأمر بالسويد أم بشقيقاتها من الدول الاسكندينافية، فنحن إزاء ملكيات مقيدة هي أنجح في تسيير الشأن العام من الجمهوريات، حتى الغربية منها. ذلك أن بعض الرؤساء يتصرفون كأباطرة، كما كان يقال عن الرئيس الفرنسي ميتران. وهذه حال الرئيس الحالي ساركوزي. لقد بدأ بعقلية لويس الرابع عشر: الدولة هي أنا، لولا أن لجمه المجتمع الفرنسي بمعارضيه ومثقفيه وهيئاته المدنية، وكل من يعنيه أمر الحفاظ على مكتسبات التنوير والحرية والجمهورية.

أما المقارنة مع ما يجري عندنا، فهي فاضحة. فنحن حولنا حسنات الحداثة، من القيم والنظم، إلى سيئات، بقدر ما تم الانتقال من الأنظمة الملكية إلى أنظمة جمهورية جمعت أسوأ ما في القديم، أي التعصب الديني والعصبية القبلية، وأسوأ ما في الحديث، أي الظاهرة الشمولية، الأمر الذي جعل البلدان العربية استثناءً بين سائر البلدان، في تخلفها الاقتصادي وفسادها الأخلاقي واستبدادها السياسي.

 

Email