المراكز البحثية وتساؤلات المستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

أبرزت الثورات العربية بشكل واضح، ضعف الدور الاستشرافي لمراكز البحوث، وبشكل خاص تلك المعنية بصناعة القرار والتحليل الاستراتيجي. والواقع أن هذا الضعف لا يرتبط بالباحثين العاملين في هذه المراكز، قدر ارتباطه بأطر العمل المحددة سلفاً، والتي تؤكد على توصيف الواقع أكثر من نقده، والنفاذ لأعماقه وإمكان التنبؤ بمساراته المختلفة.

وإذا كنا نقرأ بين فترة وأخرى تقارير تصدر عن مراكز البحوث الغربية، تتعلق بالمستقبل والخطوط العامة المرتبطة به والقوى الصاعدة والقوى الهابطة، إلى الحد الذي تصل فيه حدود التنبؤ لمئة عام قادمة، فإننا لا نعثر على تلك المنتجات التنبؤية في عالمنا العربي. فالغرب يتنبأ لنا ويحدد مصائرنا، بينما نظل نحن أسرى الطرق التقليدية في التحليل، تلك الأطر القائمة على الوصف والاجترار وإسعاد صانع القرار. ويبقى التساؤل المهم الذي يطرح نفسه هنا: لماذا نفتقد القدرة في عالمنا العربي على التنبؤ وتقرير المستقبل ووضع خطوطه العامة والعريضة؟ ولماذا جاءت الثورات العربية مفاجأة للجميع بما في ذلك العرب أنفسهم؟

رغم أننا أكدنا وجود كوادر عربية جيدة في مثل هذه المراكز البحثية، إلا أن الأمر لا يتعلق فقط بجودة التعليم والمهارات المكتسبة، لكنه يتعلق أيضاً بالقدرات النقدية التي تنقل الباحث من مصاف الوصف والتقليد إلى مصاف التحليل والتجديد. والواقع أن الكثيرين من العاملين في مثل هذه المراكز، وخصوصاً في الدول التي تعتمد على العمالة المهاجرة، يؤثرون السلامة ويعملون في إطار السياسات المقررة، دون الرغبة في المجازفة واقتراح أي جديد. وهذه الممارسات تؤدي بمرور الوقت، إلى إضفاء طابع تقليدي محافظ على العديد من هذه المراكز البحثية، بحيث لا تضيف أي جديد إلى مسيرة العمل اليومي يتناسب مع الجهد المبذول والعمالة الموجودة. كما أن العديد أيضاً من هذه المراكز يعمل في إطار مؤسسات الدولة، بحيث يتحول في النهاية إلى مجرد بوق إعلامي يقدم ما يبهج صانع القرار ويخفف من وطأة الأمور، دون القدرة على طرح الحقائق واستشراف المستقبل.

يرتبط بما سبق، أن القدرة على التنبؤ بالواقع المستقبلي تستدعي في حد ذاتها شجاعة علمية وأكاديمية من طراز رفيع، يجمع بين القدرة على فرز الوقائع والقدرة على صياغة مسارات جديدة لها. وهذه القدرات، للأسف الشديد، تتسم بالندرة الهائلة في عالمنا العربي الذي يستمتع فيه الباحثون بالحركة وفق الأطر المقررة سلفاً، والعمل وفق الأوامر المملاة، دون الدخول في متاهات التجربة وما قد ينجم عنها من مشكلات كثيرة.

اللافت للنظر هنا، أن التنبؤ لا يتعلق فقط بالأمور السياسية التي قد تخيف البعض في عالمنا العربي، بل تتعلق أيضاً بالمستويات الاجتماعية والاقتصادية. وهي جوانب لا تقدم فيها المراكز البحثية أية إمكانيات حقيقية، سواء على مستوى الوصف أو على مستوى التحليل، ناهيك عن مستوى التنبؤ. فالكثير من المجتمعات العربية يواجه مشكلات اجتماعية خطيرة جداً، يمكن أن تؤدي لانهيارات أخلاقية وأسرية على المدى القريب والبعيد، وهي قنابل موقوتة بالنسبة للمجتمعات الحديثة التي تواجه تغيرات وتأثيرات خارجية كبيرة. ورغم ذلك فإن هذه المراكز لا تقترب كثيراً أو قليلًا من دراسة هذه المشكلات، بل إن بعضها لا يفهم حتى كيفية مقاربة المشكلات الاجتماعية وطبيعة التعامل معها.

وتنبع مخاطر المشكلات الاجتماعية من كونها قد لا تطفو على السطح، مثل المشكلات السياسية الكثيرة التي يواجهها عالمنا العربي، لكنها مثل السوس الذي ينخر الخشب على فترات طويلة إلى أن يؤدي إلى انهيار البناء ككل، وساعتها يصعب تماماً التعامل مع تلك الأوضاع أو مواجهتها، أو حتى التخفيف من حدتها.

والملاحظ أيضاً، أن الكثير من هذه المراكز البحثية لا يشتمل على وحدات متخصصة بالبحوث الاجتماعية، رغم حرص البعض منها على أن يشير إلى الدراسات الاجتماعية ضمن أنشطته المختلفة. والأمر الغالب هنا على العديد من أنشطة هذه المراكز، هو مجرد الوصف والمتابعة لما تُطلقه الصحف الأجنبية، وبشكل خاص ما يتعلق بالدولة موضع التناول.

ويلفت النظر أيضاً، أن بعض المراكز يتحول في عمله إلى متابعة للإعلام الغربي بغثه وسمينه، دون القدرة على الغوص في عمق ما تنتجه مراكز البحوث الغربية المحترمة. وربما يرجع ذلك لهيمنة بعض الإعلاميين والسياسيين من غير المتخصصين على هذه المراكز البحثية، بما يملكونه من صلات مع صانع القرار، مع الوضع في الاعتبار أن الكثير منهم لا يعي أهمية التحليل الاستراتيجي والتنبؤ بمسارات المستقبل!

Email