من ثمرات الثورات العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان القذافي، بعد اندلاع الثورة في بلده وتعاظم قوتها، قد رفض التنحّي عن الحكم ومغادرة ليبيا، مع تأمين خروج آمن ولائق له ولأسرته. لم يستجب لكل الوساطات والمناشدات، بل تشبّث بالسلطة، مكرّراً وصفه للثوار بكل ما يشي بالازدراء والاحتقار، مؤكداً أنه سوف ينتصر لأن الشعب الليبي معه. وبالطبع فإن كلامه لم يكن يصدقه أحد سواه، إذ كان أقرب إلى الهذيان.

وعندما شعر بأن العاصمة طرابلس سوف تسقط، بعد أن أصبح الثوار على مشارفها وأخذوا يحاصرونها، قرر اللجوء إلى مدينة سرت، مسقط رأسه ومعقل قبيلته، ليحتمي بها، ويتحصّن داخلها، وليقاتل مع من بقي معه حتى النهاية، كما وعد، ومن غير أن يستسلم أو يهرب. ولو فعل القذافي ذلك لكان أشرف له، غير أنه كان أجبن من أن يفي بوعده، ولذا حاول الهروب من سرت قبل وصول الثوار إلى مقرّه واعتقاله.

ولكن أين المفر؟ لقد وقع في الفخ كي يعرّض نفسه للمذلّة، ويلقى سوء المصير، إذ هو، لما عثر عليه الثوار، خاطبهم بالقول: يا أبنائي، فيما كان ينعتهم من قبل بالجرذان، واسترحمهم بألا يطلقوا النار عليه، في حين كان هو قد هدّد بسحقهم وقتل منهم الكثير.

ولكن ذلك لم يجده نفعاً. لم يرحمه الثوار، بالعكس اعتبروا القبض عليه، ولو جريحاً، فرصة لا تعوّض لكي ينتقموا منه وينكلوا به ويهينوه، شتماً وضرباً وتعذيباً وسحلاً ،حتى قتله، بهذه الصورة البشعة والشنيعة التي شاهدناها من على الشاشات. وحتى لو وجده الثوار ميتاً، كانوا سيمثلون بجثته ويعاملونه بما استنكره وأدانه الرأي العام العربي والعالمي، من سلوك وحشي وهمجي.

مرة أخرى، كان الأفضل للقذافي أن يبقى في سرت حتى يُقتل، بدلاً من أن يُعتقل. وكانت في ذلك مصلحة لليبيا، لأنه لو بقي حيّاً لكي يحاكم، كما يشتهي البعض، فإنه سيتحول إلى ضحية أو إلى قضية تصبح مادة للتعاطف والتجاذب أو التوظيف والمتاجرة. وقد تفتح محاكمته ملفاً يصعب إغلاقه، لأن القذافي هو في النهاية صنيعة من ألّهوه وتواطأوا معه أو سكتوا على جرائمه، أو استفادوا من أعطياته. هذا إذا لم نقل إنه صنيعة مجتمع بكامله؛ وأن يتحكّم في ليبيا ويتزعّم في العالم العربي شخص بمواصفات القذافي، هو إدانة لليبيين والعرب أجمعين، ثقافةً وسياسةً. ولكن الناس ترى الأعراض والمظاهر، ولا ترى أنها أسهمت في إنتاجها، من حيث لا تحتسب.

في أي حال، وأياً كانت الطريقة التي آلت بالقذافي إلى نهايته، فإن ليبيا تطوي صفحة مُعتِمة لكي تفتح أخرى يؤمل أن تكون مشرقة. وإذا كان بناء هذا البلد المدمر، يحتاج إلى "الصفح" كما قال الدكتور مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي، فإن عملية البناء والتحول تحتاج أيضاً إلى فكر جديد.

من هنا فإن إعلان الدكتور عبدالجليل، الذي هو شخص يتسم بالتواضع والإنصاف وسعة الصدر، أن الشريعة الإسلامية ستكون "المصدر الرئيسي للتشريع" في العهد الجديد، لا يصب في الاتجاه المستقبلي، بل هو عودة إلى الوراء. فنهوض المجتمع الليبي من جراحه وحرائقه وخرابه، يقتضي التحدث بلغة جديدة، وتشكيل ثقافة مختلفة، وتشريعات جديدة وحديثة.

أما تونس، البلد الجار لليبيا، فقد كانت السباقة إلى طيّ الصفحة المعتمة للنظام البوليسي الديكتاتوري، وتحاول صناعة ديمقراطيتها، كما أثبتت الانتخابات المتعلقة بالمجلس التأسيسي.

ولكن سأبدأ بما سبقها، أعني ما شهدته تونس في الشهور الماضية، من جانب التيار السلفي المتشدّد، من غزوات وحشية ضد مؤسسات فنية وإعلامية وأكاديمية، بذريعة الاحتجاج ضد ما يسمّونه الإساءة إلى الذات الإلهية والمقدسات الإسلامية. وبذلك يراد لتونس أن تنتقل من شرطة الأمن إلى شرطة العقيدة، ومن حكم الطاغية الذي حوّل بلده إلى ملكية خاصة، فيما الحكم الرشيد هو شراكة ومداولة ومبادلة، إلى حاكمية السلفيين الذين يحاولون احتكار الحقيقة الدينية والنطق باسم الواحد الأحد، وفرض نموذجهم في العيش على المجتمع بأسره، لكي يُلغوا حرية التفكير أو يرفعوا سيف التكفير ضد من يخالفهم أو يعارضهم في الرأي والموقف.

مثل هذا المنطق الذي يقدم على استخدام العنف الرمزي والإرهاب العقائدي، إنما يرتدّ في النهاية على أصحابه، كما تشهد الحروب والفتن الطائفية، التي هي أشرس وأشد فتكاً وخطراً، بما لا يقاس، من الصراعات بين أهل الديانات ومن لا يأخذون بآرائهم من الدهريين والعلمانيين والخارجين على المؤسسات والسلطات الدينية.

غير أنّي لا أعتقد بأن بوسع التيار السلفي أن يتحكم في تونس التي أطاحت بالحكم الاستبدادي، لتنتقل إلى مرحلة جديدة في ما يخص إدارة شؤون السلطة والثروة والحقيقة، بحيث تنخرط في إرساء نظامها الديمقراطي التداولي، وفي بناء مجتمعها المدني التعددي، وابتكار نموذجها التنموي في تحقيق المطالب المتعلقة بالحرية والعدالة والكرامة، بالقدر المعقول والمقبول.

وقد أتت الانتخابات الأخيرة لتقدم الدليل الحي على أن تونس نجحت في الامتحان الديمقراطي التأسيسي، إذ الاقتراع جرى بنزاهة وشفافية، كما اعترف خاسرون، وكما شهد مراقبون للعملية من الداخل والخارج. وكان لافتاً أن نسبة الاقتراع بلغت رقماً قياسياً (90%). وفي الأنظمة الديكتاتورية العربية تأتي أيضاً الأرقام قياسية، ولكن مع الفارق، ففي النموذج الشمولي تكون الصناديق عديدة، والاسم واحداً، هو اسم الزعيم الأوحد الذي ينسب إليه البلد. وفي النموذج الديمقراطي، تتعدد الأسماء بتعدد التيارات والأحزاب والآراء والمواقف.

أما وقد أسفرت الانتخابات الديمقراطية عن فوز "حزب النهضة" بالمرتبة الأولى، فهل ثمّة خشية من سيطر التيار الإسلامي على تونس، وإدارة شؤونها نحو المحافظة والعودة عن مكاسب الحداثة أو الانقلاب على الديمقراطية باستخدام أدواتها؟!

ما نسمعه من الإسلاميين، منذ اندلاع الثورات، أنهم مع حكم مدني، تعددي، يقيم دولة القانون والمؤسسات، ويحترم حقوق الإنسان. وها هم جماعة النهضة يعلنون عن استعدادهم لعقد ائتلاف حكومي مع أحزاب وقِوى تصنف في خانة العلمانية. غير أن هناك فارقاً بين المعلن والمسكوت عنه، مما يجعل الإسلاميين يتأرجحون بين حدين: الحاكمية الإلهية والإدارة البشرية، المشروع الأصولي والنظام الديمقراطي، النموذج الشرعي والمجتمع المدني.

بالطبع لا بداية من الصفر، بل باستلهام مختلف النماذج والأنساق والتجارب، والاستفادة منها والبناء عليها، بما في ذلك بالطبع التراث الإسلامي تشريعاً وأخلاقاً. فلا يستقيم حكم اليوم بعقلية الماضين وأحكامهم وأدواتهم. ومن يفعل ذلك يتعامل مع المشكلة بوصفها الحل، وبالعكس. إنهم أمام التحدّي، ولن ينجحوا إذا لم يُتقنوا لغة الانفتاح والاعتراف والتحول، بتغيير العقليات والتصرفات، مع تحديث الأدوات والمؤسسات.

 

Email