الغضب من الرأسمالية

ت + ت - الحجم الطبيعي

انطلقت في الفترة الأخيرة العديد من التظاهرات حول العالم لتندد بجشع الشركات الكبرى شملت الكثير من المدن حول العالم من شرقه إلى غربه. كان الدافع وراءها سوء الأوضاع الاقتصادية العالمية وتدهور المستوى الاقتصادي للكثير من العمال الذين عانوا من فقدان وظائفهم أو تقليل رواتبهم أو خسارة أموالهم أثناء الأزمة المالية التي عصفت باقتصادات العديد من الدول الرأسمالية.

لقد صب ملايين المتظاهرين جل غضبهم على مخرجات النظام الرأسمالي المتمثلة في بروز طبقة السوبر أغنياء والشركات الكبرى التي استطاعت تحقيق أرباح كبيرة من دون أن يصل جزء من تلك الأرباح إلى العاملين فيها، بل تقاسمها كبار الرؤساء والمديرين التنفيذيين لتك الشركات، بينما يتأثر العامل العادي بسياسات تدعي مثل تلك الشركات بضرورة التقشف فيها. أولئك الغاضبون على الرأسمالية هم ذاتهم أيضاً الغاضبون على العولمة بجانبها الاقتصادي، الذين دائماً ما نراهم يتظاهرون أمام القمم الدولية التي تنعقد للدول الاقتصادية الكبرى في العالم.

والحقيقة هنا أن من يتظاهرون ضد الرأسمالية يعيشون في دول تقوم على أسس الليبرالية في الأساس ومعظمهم من الدول الغربية. فالتظاهر ضد الرأسمالية لا يعني أنه غضب على الرأسمالية في حد ذاتها وإنما هو غضب على الليبرالية لأن الرأسمالية هي أحد منتجات الليبرالية. فإذا كان المواطن الغربي قد سلم في حقه في العيش بطريقة حرة سياسياً واجتماعياً فكيف لا يمكن له أن يقبل بالعيش في الحرية الاقتصادية أيضاً. ما يحدث في العالم الغربي من غضب ضد الشركات الكبرى موجه - سواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد - إلى النظام الليبرالي المعمول به هناك، لأن الرأسمالية ما كانت لتبرز لولا الليبرالية، وما يمكن أن تنتعش إلا في نظام ليبرالي.

 بمعنى أن المتظاهرين غاضبون من النظام الليبرالي الذي أنتج لهم نظاماً رأسمالياً تتمكن فيه الشركات من بسط جشعها على العاملين. وبالتالي فإن تغير الرأسمالية بهذا الشكل يتطلب إدخال عناصر جديدة على الليبرالية تكون من خلالها أكثر رحمة بالإنسان، وهو ما يعبر عنه أصحاب فلسفة الليبرالية الحديثة الذين ينادون بتدخل الدولة في بعض الحالات كي لا يسمح للشركات بالجشع الأمر الذي يتنافى مع ما تدعو له الليبرالية التقليدية التي تعتمد على ضرورة عدم تدخل الدولة في مثل تلك الأمور، كي لا تضع قيوداً على حرية الإنسان ومنه حقه في الاستثمار لأمواله بالطريقة التي يراها.

إن المواطن الرأسمالي قد فاض به الكيل من جراء سيطرة الشركات الكبرى على مصائر الناس، إلا أنه ليس مع فكرة الابتعاد عن الليبرالية نحو المحافظة التي قد تأتي بأفكار التشدد والتدخل الصارم للدولة في كل كبيرة وصغيرة كما هو الأمر مع الشيوعية ومنتجها الاقتصادي المعروف بالاشتراكية.

إن المواطن الرأسمالي يريد عقداً جديداً لنظامه قوامه المحافظة على الحقوق السياسية والمدنية وتحقيق العدالة الاجتماعية؛ وهو النظام الوسط بين الأيديولوجية الليبرالية والأيديولوجية المحافظة، بحيث يأخذ من كل طرف محاسنه ويبتعد عن المساوئ، ولعل الحقوق السياسية والمدنية هي من إيجابيات الليبرالية، التي سمحت لمثل هؤلاء الأشخاص أن يعبروا عن أرائهم بحرية تامة، إلا أن حرية الاقتصاد خلقت فوارق كبيرة بين من يملك ومن لا يملك أدت إلى بروز مشاكل في المجتمعات، لذلك فالدعوة هي نحو تجاوز ذلك من خلال تبني مفهوم تدخل الدولة لحماية المجتمع من التضرر جراء جشع الشركات.

هذا الوضع ليس مؤطراً بعد على المستوى العالمي رغم أننا نجد أن هناك بعض الممارسات القريبة من ذلك مثل ممارسة دول الرفاه في أوروبا الاسكندينافية ودول الخليج العربي وإلى حد ما التجربة الاقتصادية الصينية. فهذه التجارب وإن كانت تختلف فيما بينها في حجم الاعتماد من أيديولوجية إلى أخرى إلا أنها جميعاً تأخذ بعضاً من أسس كل أيديولوجية وتحاول تطبيقها على الوضع القائم في مجتمعاتهم.

لذلك لم نجد شعوب تلك الدول تظهر في تظاهرات منددة بالأوضاع الرأسمالية في بلادها، وإن كانت تظهر في بعض تلك الدول لاسيما الأوروبية منها منددة بتأثيرات العولمة الاقتصادية على شعوب دول العالم الأخرى. النموذج المطلوب عالمياً هو نموذج الليبرالية السياسية والمدنية مضاف إليه المحافظة الاقتصادية من خلال ليس تهميش رأس المال والاستثمار وإنما تنظيمه بطريقة تحقق العدالة الاجتماعية.

فلو فرضت جميع الدول قيوداً وشروطاً على الشركات الكبرى من اجل التعبير عن مسؤوليتها الاجتماعية تجاه المجتمع الذي تستثمر فيه لما كان هناك غضب عارم على مثل تلك الشركات. ولكن ترك تلك الشركات تستفيد من مزايا بلد معين ومن ثم لا تقدم تلك الشركات لذلك المجتمع خدمات تساعده على الاستقرار من خلال دعم العاملين بها من أبناء ذلك البلد هي وصفة جاهزة للتذمر ورفض شعبي لذلك الأمر الجاري. فالرأسمالية قد تكون خطرة على الشعوب إذا لم يتم ضبطها.

Email