ماذا تغير بعد الثورة المصرية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما كان الحديث الذي لا ينقطع بين المصريين الآن، هو حديث ما بعد الثورة. ماذا تغير في مصر؟ ألم يكن النظام السابق ضامنا لتماسك مصر؟ أليست الأوضاع الآن أسوأ مما كان عليه الحال؟ لقد تفاءلنا كثيرا ولكن انظروا ماذا حدث؟ الإنفلات الأمني في كل مكان، البلطجية منتشرون، الأسعار في تزايد، والضغوط متلاحقة.

وبجانب ذلك، يتعجل المصريون النتائج بشكل بالغ الغرابة، ويتصورون أن الثورة ستصحح كل شيء بين ليلة وضحاها؛ عودة الأمن، الإصلاح الاقتصادي، التغيير السياسي وما يستتبعه من حريات!الواقع أن المعايش بدرجة واعية وعميقة للمجتمع المصري الآن، يدرك أن الأوضاع قد تبدو راكدة لم تتغير، فالصورة أو المشهد على حاله مثلما كان في العهد السابق، وعلى رأسه الانفلات المروري الذي تعاظمت كوارثه في ظل الغياب شبه التام للوجود الأمني في الشارع المصري.

كما أن الجرائم في ازدياد، وبأشكال جديدة لم يعهدها الشارع المصري من قبل، ناهيك عن تخبط الحكومة وضعفها. كلها شواهد قد تحمل على التساؤل المشروع: وماذا قد تغير إلى الأفضل بعد الثورة المصرية؟ وهو سؤال قد يكون بريئا، إذا ما كان السائل يحمل هموم المجتمع المصري على عاتقه، وقد يكون خبيثا ومتآمرا إذا ما كان على قائمة أولوياته ضرب الثورة المصرية وغيرها من الثورات العربية، والعمل على إنهاكها ومن ثم إسقاطها.الواقع أن هناك العديد من التغييرات التي حدثت في المجتمع المصري، وهي تغييرات على درجة كبيرة من الأهمية، وربما هي التي تخيف المتآمرين على الثورة المصرية بشكل أساسي:

1- لا يقاس نجاح الثورات بالتحقق المادي السريع، هذا تصور خاطئ فرضه البعض في العالم العربي في العقود الماضية، لكن النجاح يرتبط بمستجدات الوعي لدى المواطنين وقدرتهم على الفرز والانتقاء السياسي. والمشاهد للمجتمع المصري، يشاهد أحاديث سياسية ربما لم يشاهدها المرء لفترات طويلة، ليس فقط بين المثقفين، بل بين عامة الناس. فقد أصبحت الحياة اليومية، رغم الضغوط الهائلة التي تكتنفها، ساحة للمواجهات السياسية والمناقشات الطويلة، التي يختلط فيها الفهم الحقيقي للواقع بالأمنيات والطموحات.

2- الإحساس بالكرامة المجتمعية، وهو إحساس لا يمكن أن توفره الأموال والحالة الاقتصادية، مهما بلغت مستوياتها صعودا ودغدغة لمشاعر البشر. فالملاحظ انتفاء ذلك الإحساس الذي كان يغلف مصر والشعب المصري، بالخوف من السلطة ورموزها المختلفة.

صحيح أن ذلك يرتبط بدرجة أو أخرى بحالة فوضى مجتمعية عارمة، فلا أحد يحترم أحدا هذه الأيام، وهناك حالة من عفوية التعبير وسذاجته واضطرابه. لكن إذا وُضع كل ذلك بالنظر لعمر الثورة الذي لم يكمل العام، وفي ظل حالة القمع التي تعرض لها المصريون طوال العقود الماضية، وفي ظل الضغوط الهائلة التي تتعرض لها مصر داخليا وخارجيا، فإنه يمكن القول إننا بصدد حالة جديد لم نعهدها من قبل، ترتبط بانتفاء الخوف وامتلاك قدرات تعبيرية وطاقات سياسية جديدة.

3- رغم هيمنة أساليب النظام السابق، من تواطؤ وتلاعب وشللية في الكثير من أعصاب الدولة، فإنه من الممكن القول بوجود عين سياسية جديدة ناقدة ورافضة ومتذمرة، أمام أي انكشاف لتلاعب أو شبهة وجود فساد. ففي ظل عدم الخوف، فإن الرئيس هو الخائف والحذر، وليس المرؤوس. ورغم ذلك فإن اتساع مصر وزيادة عدد سكانها وتعود البشر على الفساد والإفساد، تجعلنا نرى أن الأمر يحتاج إلى وقت طويل للخروج من نفق التدهور الأخلاقي المرتبط بالمؤسسات المصرية.

4- أدت الثورة المصرية إلى وضوح نسبي لكافة القوى السياسية المصرية، دينية وليبرالية ويسارية.. إلخ. فمن قبل كانت كل القوى تعمل بشكل غير واضح، في ظل هيمنة الدولة وأجهزتها الأمنية على الممارسات السياسية المختلفة، أما الآن فهناك قدر كبير وغير مسبوق من الحريات السياسية. ورغم ما يخشاه البعض من وصول الإسلامين، فإنني أرى أن الواقع المصري سوف يقوم بعمليات فرز على المدى البعيد، يمكن أن تصل لهيكلة سياسية جديدة.

5- وإذا كانت الثورة قد كشفت عن طبيعة القوى السياسية الداخلية في مصر، وعن مواقفها المتباينة من الثورة، فإنها قد كشفت أيضا عن طبيعة القوى الخارجية ومواقفها المتباينة كذلك من الثورة. وهو وضع قد أوضح بجلاء غير مسبوق طبيعة القوى الخارجية المختلفة، ومواقفها الإيجابية أو السلبية من الثورة المصرية.

الواقع أن إيجابيات الثورة المصرية أكبر وأكثر تأثيرا من سلبياتها، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار كم الضغوط الهائلة التي تتعرض لها مصر داخليا وخارجيا، والخوف الذي ينتاب البعض من اتساع مساحتها عربيا. وهو أمر يستدعي من المصريين التكاتف والتعاضد، والنظر بعين البصيرة السياسية الهادفة، من أجل تسريع الانتقال الآمن والمطلوب للسلطة.

 

Email