الثقافة صناعة الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا ينتهي الكلام عن الديمقراطية، ما دام في الوسع الدخول عليها من مداخل مختلفة. والشاهد يقدمه واحد من أبرز المهتمين بالتحول الديمقراطي والشأن العمومي في العالم؛ إنه الفرنسي بيار روزانفالون، الذي هو مؤرّخ ومفكر سياسي، ورئيس "جمهورية الأفكار" في فرنسا.

لقد تناول روزانفالون الديمقراطية في أعمال له سابقة، مرة من حيث علاقتها بالعالمية، ومرة ثانية من حيث علاقتها بالمشروعية العمومية، وثالثة من حيث علاقتها بالإرادة الشعبية. والآن يتناول المسألة من مدخل المساواة، كما في كتابه الجديد "مجتمع المتساوين".

وبذلك يعود إلى البداية، وبالذات إلى الثورة الفرنسية، حيث لم تكن المساواة، أحد شعاراتها الثلاثة، تقتصر على محتواها الاقتصادي المتمثل بتوزيع عادل للثروات والخيرات، بل كان لها بعدها الاجتماعي والسياسي والثقافي. بالطبع، يسترجع روزانفالون، تلك البداية، في ضوء ما تواجهه الديمقراطيات الغربية من التحديات والأزمات، لكي يحوّلها إلى حقل للدرس والبحث، باستكشاف وبناء مختلف وجوه العلاقة بين المساواة والديمقراطية.

وبحسب هذا المدخل الجديد، تفهم المساواة، بوصفها شكلاً من أشكال العيش معاً، أو طريقة في البناء الاجتماعي، بقدر ما تكتسب صفتها الديمقراطية والسياسية. هذا ما يحاول روزانفالون التوسّع في تبيانه، من خلال مفهوم علائقي للمساواة، هو ما يسميه "المساواة/ العلاقة"، وكما يشرح ذلك في الحوار الذي أجرته معه مجلة "لونوفيل أوبسرفاتور" (أول أيلول/ سبتمبر 2011).

والمساواة، بحسب المنظور العلائقي، تتمحور حول ثلاث صور: الأولى هي التناظرية التي تجسد مبدأ التكافؤ والتعادل بين الناس، بوصفهم نظراء في الخلق. الثانية هي الاستقلالية الذاتية، وتعني سلبياً رفض التبعية من شخصٍ لآخر، كما تعني ايجابياً مساواة التبادل بين الافراد. والثالثة هي المواطنة التي تجسد مساواة المشاركة بالانتماء إلى جماعة، والمساهمة في النشاط المدني الذي يتكوّن منه هذا الانتماء.

ويرى روزانفالون أن المساواة، بحسب هذا الفهم المركّب والواسع، تمّ التراجع عنها لحصرها في البعد الاقتصادي. من هنا سعى إلى تجديد مفهوم الديمقراطية، من خلال إعادة بناء مفهوم المساواة كنمط سياسي أو إطار للعيش المشترك. من غير ذلك لا نفهم أزمة الديمقراطية في المجتمعات الغربية، كما تتمثل في اتساع الهوة بين المواطنين من حيث المداخيل والأنصبة. ولذا فهو يقول، على سبيل التندّر، إن إغفال الأبعاد الاجتماعية والسياسية للمساواة، ينطبق عليه قول الكاتب بوسوييه: إن الله يسخر من الذين يشكون من النتائج ويتمسكون بالأسباب.

في أي حال، إن كتاب "مجتمع المتساوين" يقدم لنا مثالاً على أن القضايا العامة، كالديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة، ليست أموراً فطرية أو أقانيم مقدسة، كما يجري التعامل معها، عندنا، لكي تترجم بأضدادها؛ وإنما هي أفكار يجري العمل عليها ومراجعتها باستمرار، على سبيل البناء، على وقع التحديات، وفي ضوء ما تفاجئنا به الحياة، بقاعها ونبضها وتحولاتها، الصامتة أو العاصفة. من هنا لا يتوقف الكلام عن الديمقراطية أو عن المساواة.

ولا غرابة، فالشيء أكان ذاتاً أم فعلاً، حدثاً أم مؤسسة، هو علاقته ببقية الأشياء. وفي حال الأزمات، يفتح الفكر الحي والخصب، المجال لاستكشاف وبناء علاقات جديدة بين الأشياء، أو بين المفاهيم، أو بين الكلمات والأشياء، مما يعني أن الشيء هو علاقته بذاته التي هي ملتبسة، مركبة، بقدر ما هي غير متناهية.

لقد فضحنا الروائي الياباني هوراكي موراكامي، على مستوى الثقافة وفي مجال القراءة. فروايات هذا الكاتب الكبير تباع بملايين النسخ في بلده اليابان، ناهيك عن بقية بلدان العالم. وقد طُبِع من روايته الأخيرة (1Q48) أربعة ملايين نسخة. هذا في حين أن الرواية الناجحة، عندنا، لا تتعدى مبيعاتها آلاف النسخ. ومعلوم أن عدد سكان اليابان يقل عن مائة مليون نسمة، في حين أن عدد سكان العالم العربي يفوق الثلاثمائة مليون، مما يعني أن نسبة القراءة عندنا هي أقل مما في اليابان بألف مرة.

وهكذا كنا نظن أن اليابان تتفوق علينا وتسبقنا، فقط في مجال التقنية والتنمية، فإذا بها تسبقنا بأشواط في مجال الثقافة بالذات. ومعلوم أن الرواية تتصدّر اليوم المجال الثقافي، على الساحة العالمية، وفي معظم البلدان. إنها ليست مجرّد عمل يُقرأ للتسلية أو المتعة العابرة، وإنما هي نتاج ثقافي رفيع بأعمق وأغنى معاني الكلمة. هناك روايات تتقاطع مع مختلف حقول الثقافة، بحيث نجد، عندما نقرأها، أنها تقترب من الشعر بأسلوبها الغنائي.

ومن العلم بسردها الدقيق، ومن التحليل النفسي بغوصها على الدواخل المعتمة، كما نجد أنها تنظر إلى المشكلات بعين عالِم الاجتماع، أو تتناول بعقل الفيلسوف الحذر من اليقينيات أزمة القِيَم ومآلات المصائر. وهذا ينطبق إلى حد كبير على روايات موراكامي، وبالأخص على روايته الأخيرة (1Q48)، التي تستوحي رواية الكاتب البريطاني جورج أورويل (1984)، الأخ الأكبر، لكي تعالج الأمور بصورة معكوسة ومختلفة.

إنها رواية تبين أن ما حدث بالفعل، هو بخلاف ما كان قد تنبأ به أورويل. فالظاهرة الشمولية قد انهارت مع انهيار النازية والشمولية والستالينية، أو هي على الأقل تتخذ أشكالاً جديدة في عصر الشبكات الالكترونية، بقدر ما تُنتج مقاومات لها غير متوقّعة.

نحن إزاء رواية تتطرّق، بالطبع بلغة السرد الفني والجمالي، إلى التحولات التي طرأت على المجتمع الياباني، حيث نموذج النمو يشهد نهايته، أو على الأقل أزمته، كما تنطوي على رؤية للمجتمعات المعاصرة، من خلال التطرق إلى مشكلات الأصولية والاستلاب والعلاقات الجنسية بين الرجال والنساء. إنها رواية من نمط وجودي، تُقرأ أكثر من مرة، شأنها شأن الأعمال المبتكرة التي لا تقرأ للقبض على معناها.

بل لإعادة إنتاج المعنى. بهذا المعنى نحن نقرأ الرواية لكي ننخرط في خبرة نغتني بها، بقدر ما نعيد اكتشاف العمل الذي نقرأه، فنجدّد فكرنا ونجدد المعرفة به في آن. وأياً يكن، فإن المقارنة بيننا وبين اليابان، على الصعيد الثقافي، تبين أن الثقافة ليست هي الحصن الأخير عندنا.

كما يشخص الأزمات بعض المثقفين. قد يكون العكس هو الواقع، بمعنى أن ثقافتنا هي من الهشاشة والتطرّف والانغلاق، بحيث تحتاج إلى التفكيك، بثوابتها وأنساقها وشيفراتها ومرجعياتها، لإعادة الإنتاج والبناء، في ما يخص مرجعيات المعنى ومصادر المصداقية أو المشروعية، من القيم والنماذج أو المفاهيم والمعايير... ولو كانت الثقافة غنية، قوية، فعّالة، راهنة، لما كانت الأوضاع في العالم العربي بمثل هذا البؤس والتخلّف.

وإلاّ كيف نفسّر أن نجوم الثقافة من دعاة التغيير وعشاق الحرية والحالمين بالثورة، والذين ما انفكوا يمارسون الوصاية على القضايا والقيم، إنما يفاجأون، ومن حيث لا يعقلون، بأن هناك آخرين، كانوا على الهامش، فإذا بهم يتحرّكون وينتفضون ليفتحوا لنا آفاقاً للتغيير ويشقوا دروباً للحرية، مضرّجة بالدماء، وعلى نحو لم يكن في الحسبان.

 

Email