مشاهد من زيارة أردوغان لمصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى دول الربيع العربي؛ مصر وليبيا وتونس، لتكشف عن مدى الضعف الذي وصل إليه العالم العربي الآن. وحتى لا نُتهم بالتعميم، فإن التحليل الراهن سوف يقتصر إلى حد كبير على الحالة المصرية، وأهم المشاهد والنتائج التي ارتبط بها، رغم صعوبات الفصل بين الحالة المصرية والسياق العربي. وفي ضوء ذلك يمكن الخروج بما يلي:

1- حملت الزيارة معالم بالغة السخونة، ارتبطت بالصراع التركي ـ الإسرائيلي، بشكل بدا معه العرب أصحاب القضية الحقيقيين، في الهامش من هذا الصراع وكأنه لا يمت لهم بصلة. ففي الوقت الذي ندد فيه أردوغان بإسرائيل وقتل الجنود الأتراك والمصريين، صمت العرب ولم ينتقدوا إسرائيل، ولو على سبيل المجاملة.

2- كشفت الزيارة عن "فضيلة" الصمت المريب التي يتحلى بها العرب، في ظل اندفاع الآخرين بحثا عن مصالحهم، وفي ظل إمكانية تعظيم المكاسب التي يحصلون عليها، إذا ما استفادوا من صلاتهم بتركيا وغيرها من القوى الصاعدة الجديدة، بديلا عن الارتماء في أحضان الولايات المتحدة وإسرائيل.

3- أبرزت الزيارة أن السياسة الخارجية العربية، وبشكل خاص تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، محكومة بعناصر غير مفهومة، يحددها صانع القرار العربي وفقا لأهوائه وأهواء القوى التي يرتبط بها، والتي تحدد له ما يجب أن يقوله أو يتخذه من قرارات.

4- بينت الزيارة أن الواقع العربي محكوم بالهزيمة وعدم وجود شخصيات كاريزمية عربية حقيقية، وهو أمر ظهر من خلال الاحتفاء المصري واسع المدى بأردوغان والتهليل له.

5- فضحت الزيارة تخبط التوجهات الفكرية والسياسية في مصر، وظهر ذلك واضحاً من خلال إسقاط المشكلات المصرية على أردوغان، وتأويل خطابه وفقاً للتوجهات والأهواء السياسية لكل فصيل سياسي في مصر. فالإخوان قابلوا أردوغان وهللوا له بوصفه الخليفة الجديد المنتظر، حامي حمى العرب، صلاح الدين الجديد..

 وانقلبوا عليه حينما تحدث عن التجربة التركية وعلمانيتها، ووقوفها مسافة واحدة من كل التيارات السياسية التركية. وكأنه كان لزاماً على الضيف الشجاع أن يتحدث عما يعجب الإخوان ويراودهم، وفقا للتجربة المصرية الآنية. والعلمانيون والليبراليون رأوا في خطابه نموذجاً يمكن أن يحتذى، لكنهم خافوا من توجهات الخطاب الدينية وطبيعة التجربة التركية، وكأنه كان يجب على أردوغان أن يرفض الدين إرضاء لعيون الليبراليين والعلمانيين المصريين.

6- ألقت الزيارة الضوء على حقيقة ضبابية التيارات الفكرية والسياسية المصرية، وضعف الرؤية التي تتمتع بها. فأردوغان ركز على التعليم والتنمية بدرجة كبيرة، لم تمنحها التيارات المصرية المختلفة الأهمية المناسبة لها. فالرجل تناول التعليم وأهميته في تحديث المجتمع، كما بين بالأرقام الفعلية غير الكاذبة وغير المدعية، التحولات الهائلة للتنمية في تركيا التي ضاعفت من الدخل القومي لها، والدخل الفردي للأتراك خلال عشر سنوات، بشكل جعل تركيا واحداً من أهم عشرين اقتصاداً عالمياً.

وفي الوقت الذي كان يجب فيه أن يتحدث المصريون عن هذه الإنجازات ويتناولوها بالدرس والتمحيص، إذا بهم يدخلون في جدل بيزنطي حول العلمانية والدين، وحول مقارنة التدين التركي بالتدين المصري العريق!

7- أكدت الزيارة على براغماتية السياسة، من خلال الأهداف التركية التي رأت في زيارة الدول العربية وعلى رأسها مصر، ضرباً من النكاية في إسرائيل وضرباً من رد الصاع لها نتيجة لمقتل أتراك السفينة مرمرة. ولم يكن أردوغان منافقا سياسيا باحثا عن مصالحه الذاتية.

لكنه تحلى بقدر كبير من الأخلاق السياسية، حينما مزج بين مصالحه السياسية وربطها بالعديد من المشروعات الاقتصادية والتعليمية التي قدمها من خلال وزرائه ورجال أعماله، لمصر وللمصريين، بشكل احترم مشاعرهم وأشاد بثورتهم، من دون التدخل في شؤونهم، أو التعالي عليهم.

لقد قدمت زيارة أردوغان نموذجا رائعا للكيفية التي يتعامل بها القادة الحقيقيون مع الدول الأخرى، والكيفية التي يستطيعون بها تحقيق مصالحهم وتعظيمها بشكل يعي للتحولات السياسية الإقليمية، وبقدر من الإبداع الاستراتيجي في اختيار التوقيت وتحديد مسارات الصراع.

واللافت للنظر أن كل ذلك يحدث في ظل صمت وضعف عربيين مريبين، ومن دون حتى أية محاولة للالتقاء مع الشريك التركي الفاعل، ليس فقط أوروبيا، ولكن أيضا عربيا وإسلاميا. وهي أمور مثيرة للاستغراب الشديد، في ظل اندفاع إسرائيلي أميركي من أجل تقزيم العرب، وتقليم أظافرهم، وإضعاف ثوراتهم، واستنزاف ثرواتهم.

 

 

Email