كمال الصليبي.. أساطير الأولين وأقانيم المحدثين

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان المؤرخ اللبناني كمال الصليبي، الذي رحل مؤخراً، صاحب أطروحات أثارت الكثير من الجدل والسجال، حول العديد من القضايا، سواء ما تعلق منها بتاريخ لبنان، أو بتاريخ الديانات. بالنسبة إلى لبنان، فقد قادت تحقيقات الصليبي إلى إعادة نظر جذرية في التصورات والصور التي ترسخت في العقول، والتي اعتبرها مجرّد أساطير جرت فبركتها، حول تكوّن لبنان أو اسمه أو خريطته، أو حول بعض الشخصيات والرموز التاريخية التي احتلت مرتبة البطولة لدى شرائح واسعة من اللبنانيين، كالأمير فخر الدين الثاني الكبير.

بالنسبة للديانات، فقد أحدث كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، هزّة في الأوساط الثقافية. هنا أيضاً حاول الصليبي، بتنقيباته واستقصاءاته الخارقة للثوابت، نسف بعض الأساطير المتعلقة بالديانة اليهودية، وبمنشأ اليهود وموطنهم الأصلي. ومن الطبيعي أن تلاقي أطروحاته صدى إيجابياً لدى أصحاب التيار القومي، إذ رأوا أنها تصبّ في مصلحة الفلسطينيين والعرب والفكرة العربية.

أعترف بأنني لم أطلع على مؤلفات الصليبي، لأنه لم يكن يعنيني كثيراً، إذا كانت القبائل الإسرائيلية التي تحدثت عنها التوراة، لم تذهب إلى فلسطين بل إلى جزيرة العرب.

ما كان يشغلني، وأنا أعيش في بلد يعاني مرارة الحرب الأهلية بين مسلمين ومسيحيين، هو تفكيك الأساطير المؤسسة للديانات الإبراهيمية التوحيدية، التي هي ثلاث نسخ لمعتقد اصطفائي واحد، ومع ذلك يندلع العنف والحروب الأهلية، بين طوائف ومذاهب يعتقد كل منها أنها تحتكر تمثيل الأصل اللاهوتي وتنطق وحدها باسمه، وما عداها فهو تحريف وبدعة أو كفر وضلالة.

كذلك لم يكن يعنيني، كثيراً، إذا كانت ولادة لبنان هي ثمرة اتفاقات سايكس ـ بيكو بين الدول الغربية الاستعمارية، التي أعادت رسم خارطة العالم العربي ودوله وفقاً لمصالحها واستراتيجياتها. ذلك أن لبنان قد بات، منذ زمن، دولة مستقلة ومعترفاً بها من جانب هيئة الأمم المتحدة والجامعة العربية اللتين أسهم في نشوئهما. وما كان يشغلني، يومئذٍ، هو التفكير والعمل على نهوض لبنان من خرابه، لكي يستعيد وضعه الطبيعي كبلد آمن ومستقر.

ثم إن الكلام على دور الدول الاستعمارية في نشوء وتركيب البلدان العربية، قد بات من المضحكات المبكيات، ما دام بعض المجتمعات العربية التي سعت قبل عقود للتحرر من الاستعمار الغربي، تستنجد الآن، بالدول الغربية للتحرر من قبضة الأنظمة الاستبدادية الشمولية، التي مارست وأنتجت كل ضروب المساوئ والمظالم والمفاسد، باسم العروبة والوحدة والتقدم والاشتراكية، فضلاً عن المقاومة والممانعة.

نعم، لقد قرأت مقالة للصليبي لفتت نظري في طرافة موضوعها، وكانت تدور حول كلمة "غَلْبُون" التي هي اسم قرية لبنانية سكانها مسيحيون. فقد شطح التفسير بالبعض إلى القول بأن أصل الكلمة هو اسم فرنسي: غِيُّوم (Guillaume)، لكي يستنتج من ذلك أن سكان هذه القرية هم من بقايا العائلات الفرنسية التي أتت إلى لبنان مع الحملات الصليبية.

وقد استفز الصليبي مثل هذا التفسير، الذي يدل على جهل صاحبه باللغة العربية. ذلك أن كلمة "غلبون" تندرج تحت الصيغة الصرفية العربية "فَعْلون"، مثل خلدون وزيدون وعبدون. ولذا فقد افترض المؤرخ النابه أن سكان غلبون هم من قبيلة "تغلب" العربية المسيحية. وقد تحقق من فرضيته، بذهابه إلى القرية للتحرّي عن أسماء الأشخاص، ليس من الأجيال الحالية، بل أسماء الجدود أو الجدات، فوجد أنهم كانوا يسمّون بناتهم ليلى وهند وأسماء.. مثل هذا التحقيق يُشكِّل مثالاً جيداً على الدرس التاريخي المستند إلى الوقائع اللغوية.

قد تحمد للصليبي جرأته الفكرية وجدّته المعرفية، في تحقيقاته وتحريّاته التي كشفت مدى التلاعب والحجب والتزوير في الكثير من الوثائق والوقائع المتعلقة بتاريخ الديانات والشعوب.

واللافت هنا أن المثقفين العرب، المسلمين، تدغدغ مشاعرهم انتقادات الآخرين لهويتهم وثقافاتهم، ولذا نراهم يثنون على كمال الصليبي، المسيحي اللبناني، الذي يعيد النظر في تاريخ المسيحية واليهودية، أو في تاريخ لبنان كما صاغه المؤرّخون المسيحيون، والموارنة منهم بشكل خاص.

مثل هذه الأطروحات النقدية تعني لهم شيئين: الأول هو تأكيد المؤرخ المسيحي على انتمائه العربي، وكأن المسيحي العربي هو متّهم حتى تثبت براءته، بإشهار ولائه أو انتمائه إلى عروبته. والشيء الثاني، أنهم يرون أن نقد المسيحي العربي لهويته، يعطي مصداقيةً للعرب والمسلمين في صراعهم التاريخي مع العالم الغربي.

وعلى هذا النحو يتعاملون مع تشومسكي المفكر المنشق عن بلده أميركا، سياسةً وثقافةً. إنهم يرحبون بنقده ويجدون فيه حجةً للتمسّك بأفكارهم المستهلكة وثوابتهم المعيقة. وهكذا فهم لا يستفيدون الدروس من هذا النقد بالارتداد النقدي على الذات لمراجعة الأفكار والمفاهيم المتعلقة بالهويات والسياسات، وما تستبطنه من الخرافات والتهويمات.

فإذا كانت الديانات لا تخلو، بل تنبني على "أساطير مؤسسة"، فعندنا لا تقلّ الأساطير عمّا عند غيرنا، لأننا إزاء نفس العملة العقائدية الأصولية؛ وربما كان المنسوب الأسطوري، عندنا، أقوى وأكثر فاعلية، بقدر ما يتم تحييد التراث من عمل النقد، بتحويله إلى محرّمات أو مقدسات لا يرقى إليها الشك، ولا تخضع للمساءلة أو المراجعة.

وحسناً فعل الصحافي اللامع ساطع نور الدين في كلمته عن كمال الصليبي، إذ قال: "ما أنتجته المجتمعات المسلمة من أساطير كانت ولا تزال، حتى اليوم، بمثابة أسلحة دمار شامل، تولد أجيالاً من المتشدّدين وعلماء معمّمين يقودونهم إلى الجحيم" (جريدة "السفير"، السبت 3 ايلول 2011). وإلا كيف نفهم كل هذه الفتن التي يصنعها الوحش الأصولي والتنين المذهبي!

من هنا فإن نقد الآخر لهويته وديانته وثقافته، سواء أتى من جهة المسيحي العربي، أو من جهة الغربي الأميركي، ليس هو الذي يعرّفنا بأنفسنا، بل يعزّز النرجسية الثقافية عندنا، لكي ننام على خرافاتنا وأساطيرنا التراثية التي تحتاج إلى من يقوم بتفكيكها وتشريحها.

ولعلّ هذا ما يفعله الكثيرون مع العناوين والمفاهيم الحدثية، التي تعاطوا معها بصورة خرافية، لاهوتية، تقليدية، أصولية، كما جرى التعامل مع شعارات التقدم والعقلانية والحرية والاشتراكية.. والمآل أن تترجح الثقافة العربية، سيما بنماذجها الأيديولوجية، بين أساطير الأولين وأقانيم المحدثين، بين ديناصورات التراث وديناصورات الحداثة، لننتج العجز والتخلّف والعنف والاستبداد.

 

Email