متى نجدّد العناوين الحضارية؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتساءل البعض عما إذا كان تفكيك الأصوليات الدينيّة، كما طرحت ذلك في كتابي الجديد «ثورات القوّة الناعمة في العالم العربي»، يعني التحرر من الفكر الديني أو تراجعه.

وفي الجواب على ذلك، أرى أن نتعامل مع الكتب الدينيّة بما هو ممكن ومتاح لنا، أي بمقاييسنا البشريّة، لأنّه سواء كان مصدرها عالم الغيب أم عالم اللاوعي، كلام الله أم الطفولة الإنسانيّة، فإنها تستحيل على أرض الواقع تجارب محايثة وأعمالاً دنيويّة، يسري عليها النقص والخطأ والنسيان والتحول والنفاد.

فالأجدى، إذاً، أن نتحمل المسؤوليّة عن أعمالنا وصنائعنا، فلا نخلع عليها طابع القداسة والعصمة، كي لا نعمل على استباحة ما نقدسه أو نعبده، كما نشهد تجارب البشر مع المقدسات والمحرّمات والمتعاليات. نحن لسنا على قدر هذه الادعاءات التي هي من قبيل التشبيح والتهويم، إذا لم نقل الشعوذة.

وأنا لا أدعو بذلك إلى قطيعة مع التراث. فهذا سخف في العقل، فضلاً عن أنّه غير ممكن، لأن التراث، خاصّة في نصوصه ومراجعه، هو وقائع وتشكيلات خطابيّة لا معنى لنفيها، لأن الممكن والمجدي هو الاشتغال عليها واستثمارها، بعيداً عن أي إقصاء، بتحويلها من معرفة ميتة إلى معرفة حيّة. بهذا المعنى لا نفي ولا مماهاة، بل وصل وفصل. من غير ذلك، وكما تشهد التجارب، مرّة أخرى، نحولها إلى عوائق وأفخاخ، أو نقوم بطعنها والانقلاب عليها، فيما ندعي المحافظة عليها وتطبيقها.

قد يقال بأن الوقائع، كما تتجسّد في صعود الأصوليّات، تشهد على عودة الدين، فكيف نتحدّث إذاً عن تفكيك الأصوليّات أو تراجع الدين؟ ولكن لا شيء يعود كما كان. نعم لقد عاد الدين، كما أنذرنا أو بشرنا بعضهم، لكي يمسي آفة أو داءً فتاكاً.

حيث المهمّات الإلهية والأحكام الفقهيّة والفتاوى، تتحوّل إلى مصانع لإنتاج الموت والدمار، أو إلى أقفال عقائديّة تختم على العقول والأجساد. من هنا قولي إن الفتوى تدمر التقوى. ولنتأمّل في ما حدث، منذ شهور، في غزّة، حيث اختطف الناشط الإيطالي «فيتوريو أريغوني»، المتضامن مع القضيّة الفلسطينية، لكي يعدم على يد جهاديين إسلاميين!

قد يقال، هنا أيضاً، على سبيل الاعتراض، ألا يجدر الفصل بين الدين وتطبيقاته أو مؤسساته؟ جوابي أن مثل هذا التمييز ينتمي إلى حقبة الحداثة المستنفدة، بشعاراتها وثنائياتها. ومن جملة هذه الثنائيّات، خلع الطابع المتعالي على العقائد والمبادئ لتحييدها عن عمل النقد، صراحة أو تقيّة، على ما يفعل الإسلاميّون والماركسيون الذين يجهدون لإنقاذ تعاليمهم ونظريّاتهم، بنفي الحوادث والقفز فوق حقائق التاريخ المعاش والتجارب المريرة. والمحصلّة هي أن تنتقم منهم الوقائع وتهمشهم الأحداث

. ولنتأمل مسألة الفصل بين الإسلام ومؤسساته. إنّها ثنائية خادعة، مستهلكة، تضع صاحبها على أرض الأصوليّة وبين براثنها:

أوّلاً، لأن الإسلام لم ينفصل يوماً عن مؤسساته، من مؤسسة الخلافة إلى مؤسسة الأزهر أو النجف، ومن مدرسة نظام الملك إلى مدارس طالبان.

ثانياً، لأن الإسلام متعدد، فعن أي إسلام نتحدّث أو أي إسلام نريد: إسلام السنّة أم إسلام الشيعة؟ إسلام الأزهر أم إسلام القاعدة؟ إسلام خاتمي أم إسلام أحمدي نجاد؟

نحن إزاء إسلاميّات متعارضة، متلاطمة، تقوم بين أهلها علاقة نسخ أو كره أو عداء، كل يحاول احتكار المشروعيّة بنفي ما عداه. بالطبع هناك نصوص تدعو للتسامح والتعارف والتواصل، بل ثمة نصوص قرآنيّة تصف الإنسان، على المستوى الوجودي، ككائن جهول ظلوم، مفسد في الأرض، سفاك للدماء لا يرحم.

وبوسعنا اليوم استثمار هذا الرصيد الرمزي كما يتجلّى في الموقف النقدي من الإنسان، أو في القيم التي تقر بالاختلاف وتدعو للوسطيّة والتعارف، من أجل كسر الحواجز بين المذاهب والطوائف. ولكن هذه النصوص لم تستثمر، في ما مضى، بل بقيت حبراً على ورق. ما جرى التمسك به هو الجانب الأيديولوجي، بنصوصه القائلة بالاصطفاء والداعيّة إلى النبذ والوصم والإلغاء.

بقي أمر أخير، وهو أن الإسلام، سواء بنصه الأوّل، أو بتفاسيره وقراءاته، لم يكن يوماً متعالياً، كما يعتقد الذين يلعبون لعبة الفصل بين القرآن وتفاسيره، وإنما نحن إزاء خطاب أو كلام، كان يتشكل يوماً بيوم، في أتون التجارب والصراعات، استجابة لحاجات ومطالب، أو لظروف وتحدّيات وجوديّة سياسيّة أو معاشايه أو ثقافية أو أمنية...

وهكذا فالإسلام هو معايشته الدنيويّة، وتحوّلاته التاريخيّة، ونسخه المتبدلّة، وقراءته المعددة، الإيجابيّة أو السلبيّة، البناءة أو الهدّامة.. وهو بذلك، شأنه شأن أي عمل أو كيان أو شيء أو نص، إنما هو معطى وجودي مفتوح على الاحتمالات والخيارات المتعارضة، أي رهان يتوقف على فهمنا له وطريقة تعاطينا معه أو توظيفنا له.

وهذا ما يحصل الآن، بشكل خاص، حيث يترجم العمل الديني على يد دعاته وحماته وجهادييه، إلى فتاوى بغيضة واستراتيجيات قاتلة. وتلك هي ثمرة استراتيجية الرفض المتبادل.

من هنا لم تعد تجدي الخطابات الخاوية حول المبادئ الإسلاميّة الجامعة، فيما البداهات والثوابت الثاويّة في أقاصي الوعي وكواليس الذاكرة، تعمل بعكس ذلك. وما علينا فعله هو أن نعمل على ما لم نجرؤ على عمله منذ عصر محمد عبده ومحمد إقبال، بحيث نكون على قدر المهمّة الداعيّة إلى النهوض والإصلاح وإعادة البناء. ذلك أن إعادة البناء تقتضي تفكيك الترسانة الفكريّة من النصوص والعقد والمقولات والأحكام والفتاوى، التي تشكل ما أسمّيه «الصندوق الأسود»، أي الجينات الثقافيّة التي تنصب، بين الجماعات المختلفة، جدران الكره والحقد، أو تزرع الفتن وتحدث الشرخ، أو تقوده إلى الاستبداد والإرهاب

. والسؤال الذي يملي نفسه هنا، أعني سؤال التقريب أو الحوار: من يجرؤ اليوم على مواجهة الذات بالنقد والمراجعة؟ من يجرؤ على القول؛ ليس كل ما جاء في كتبنا صحيحاً؟ بل من يجرؤ على التصريح بأن ليس كل ما تركه السلف الصالح هو صالح أو ملائم لحياتنا الحديثة والمعاصرة؟

من هنا لم تعد المسألة أن نميّز بين إسلام متعالٍ وإسلام محايث، لكي ننزه العقيدة الإسلامية وندين المسلمين. فالإسلام، بمنظومته الفقهيّة الضيّقة وتراكيبه العقائديّة الاصطفائيّة، لا يعطي إلا ما يفاجئ ويصدم من الانتهاكات والارتباكات أو المساوئ والكوارث.

المسألة تكمن في أن شعار «الإسلام هو الحلّ»، لا يحل المشكلة بل يعقدها، لأنه لا يصلح كمشروع للحياة الصالحة، أو كخيار للإقامة في هذا العالم على سبيل التسويّة والشراكة، أو كنموذج للبناء والتنميّة، ما يعني أننا نحتاج إلى ابتكار عناوين جديدة، تتغير معها قواعد الحياة ومعايير المعاملة ونماذج الرؤية!

 

 

Email