محمد بن راشد والرصيد الحضاري للإمارات

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أيام قليلة، وفي هذا الشهر، شهر رمضان ذي العطاء الخيري الواسع، تم توقيع عقد إنشاء مبنى جمعية الإمارات لحقوق الإنسان، هذه الجمعية التي هي في واقعها أعلى ما تمثله جمعيات النفع العام التابعة للمجتمع المدني، ليس في الإمارات وحدها، بل في كل مكانٍ في العالم الإنساني المتمدين.. لأن وجود جماعة تتبنى العمل على ترسيخ مفهوم حقوق الإنسان في أي مجتمع، يُعد في حد ذاته إنجازاً حضارياً لذلك المجتمع، الذي تتواجد فيه هذه الجماعة..

 وعندما تقوم سلطة إدارية ما، وفي بلد ما، أو في مجتمع ما، بتقبُّل نشاط تقوم به جماعة تتبنى حقوق الإنسان، فإن ذلك يعني أن تلك السلطة الإدارية عاقدة العزم على أن تصنِّف نفسها سلطة إدارية متمدنة، شأنها شأن أية سلطة إدارية مماثلة في أية بقعة في الدنيا، يُشار إليها بأنها قائمة في بلد متمدن، ويسير في طريق المدنية بإرادة صادقة.

ومن أولى مخرجات هذه المدنية، العمل على إقامة مجتمع مدني لا يتخذ من الفئوية الدينية والطائفية والعرقية والعشائرية، مساراً وسلوكاً، وآية هذا المسار وهذا السلوك ما اتضح في المناهج التي وُضعت لانتخابات المجلس الوطني القادم في الإمارات، والتي حظرت فيها الحكومة لجوء المشاركين في الانتخابات إلى أي نوع من أنواع الاستفزاز القبلي والطائفي والعرقي، وما شابه ذلك من هذه الموبقات الضارة.. ونسميها موبقات لأن الحوادث والوقائع في كل مكان، أثبتت أن اللجوء إلى الفئوية عمل ضار وعقبات أمام التنمية، وبالتالي عقبة ليست كمثلها عقبة تحول دون نمو المدنية، وقيام المجتمع المدني الذي يخلق المدنية المنشودة.

وقد جاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في توليه رئاسة وزارة الاتحاد عام 2006، ليجسد ما سبق أن تم التخطيط له من قِبل الزعامة الرشيدة للدولة؛ رئاسة الدولة، المجلس الأعلى، مجلس الوزراء، وهو أن الإمارات لا بد أن تكون واحة للتعددية الديمغرافية، وأن الأرض الإماراتية لا بد لها أن تصبح مكاناً للتعايش السلمي بين جنسيات وأعراق مختلفة، فيقبل بعضهم بعضاً دون أية غضاضة ودون أي امتعاض.

وعندما قامت جمعية الإمارات لحقوق الإنسان واجتمع مؤسسوها في أبو ظبي يوم 5 فبراير 2006، واختاروا لها مجلساً للإدارة، سرعان ما رأى البعض ممن لم يتشرب روح العمل الجماعي، واعتقد أن طموحاته السلبية لم تتحقق، وما عليه في هذه الحالة، إلا أن يعرقل السير، سير الجمعية إلى الأمام..

ولكن كان هناك محمد بن راشد، صاحب الرؤية التي تسمو عالياً، والذي تصدّى للسلبيات وللتضليل المتعمد، ولم يترك المجال لأية خطة سلبية، وعرف أن وجود الجمعية، جمعية الإمارات لحقوق الإنسان، وجود لمعلم حضاري، وأنها قيمة مضافة، لأن محمد بن راشد، متشرّب بالحسِّ الحضاري والمدني..

ولم يكتفِ محمد بن راشد بالتأييد المعنوي لهذا المشروع الحضاري، بل قرر المساندة وتقديم الدعم المادي، الذي يسهّل للجمعية المضي في طريقها وعملها الخيرين، فأمر بتخصيص أرض تملكها الجمعية، وقدّم لها مساعدة مالية قدرها خمسة عشر مليون درهم، لإنشاء مقر للجمعية على تلك الأرض، الشيء الذي يُعتبر غير مسبوق في أي مكان في الشرق الأوسط، وقد يكون غير مسبوق أيضاً في العالم.. فمن النادر أن نسمع أن حكومة ما تقوم بتقديم هذا النوع من الدعم السخي لجمعية ذات نفع عام..

ومن هنا، فإن الإنصاف يقتضي أن نشير إلى أن مــساهمات الشيخ محمد بن راشد في المجال الحضاري والإنساني، بلغت مدىً بعيداً وواسعاً، ووضعته مشروعاته العالمية والإنسانية والحضارية في مرتبة أعلى كبار الشخصيات العالمية، التي اتخذت لها هذا المسار الخيّر.. ومن الواجب على كل من يعمل من أجل بروز هذه الإنجازات الحضارية، أن يشيد بما تم من عمل حتى الآن على يد هذه الشخصية الفذة.

ومن يقرأ كتاب الشيخ محمد بن راشد "رؤيتي"، يجد أن الملامح الحضارية، والرصيد الحضاري لدى هذه الشخصية بادية للعيان، وخاصة تلك المتعلقة بنظرته إلى المجتمع المدني، الذي قامت على أكتافه نهضة دبي وازدهارها.. يقول الشيخ محمد..

((الامتياز لا يعرف التفرقة الدينية أو العرقية، لأن إنسانيته الجامعة فوق ما يفرق البشر. الجميع يعيشون بسلام والكل يريدون أن يعملوا وينتجوا ويربحوا في بيئة تتساوى فيها الفرص والحقوق والواجبات، لذا كانت المحافظة على السلام والأمن مسؤولية الجميع، وأهم أركان استمرار الإنتاج، وحماية المصالح والتعاون والتعايش بكل أنواعه: تعايش الديانات، تعايش الاختلاف، تعايش القيم، تعايش المفاهيم وهكذا..

((أعظم ما في الحضارة العربية الأندلسية، ليس قصر الحمراء أو مسجد قرطبة الكبير أو مدينة الزهراء أو قصر إشبيلية، بل لأنها قدمت للإنسانية النموذج الفريد الذي عرفه العالم حتى الآن، على إمكان تعايش الحضارات والأديان وتعاون الجميع لصنع الامتياز.

ماذا حلَّ محل المؤسسة العلمية في قرطبة؟ مؤسسة محاكم التفتيش، أطول مؤسسة صنعها الإنسان عمراً. ماذا حلَّ محل الثقافة والأدب قي قرطبة؟ إحراق المؤلفات وحبس من يكتشفه عُمّال محاكم التفتيش مُكباّ على كتاب. ماذا حلَّ محل التعايش في قرطبة؟ العنصرية. معظم حضارات العالم الجديد وقعت ضحية هذه العنصرية، لأن الإسبان لم يروا في تنوّع الحضارة البشرية آنذاك واحداً من أجمل صفات الإنسانية، بل عدواً لا رحمة له ولا شفقة.

((التنوع هو الذي يعطي الحضارات مذاقها المتميز. التنوع الكبير الموجود في دبي هو أحد أسرار سحر دبي، وقرطبة. هذه الخلطة في مكان آخر يمكن أن تكون شيئاً مختلفاً تماماً. نحن أيضاً بعد ألف عام من زوال الخلافة في حاضرة الأندلس نقدّم نموذجاً متجدداً على إمكان تعايش الحضارات والأديان والتنوع والاختلاف، وتعاون الجميع لصنع الامتياز في كل شيء.

من يتحدث اليوم عن صراع الحضارات، وعن العداوة بين الإسلام والغرب، ويزعم أن الغرب لا يستطيع التعايش مع الإسلام، وأننا نمجّد الموت ولا نمجّد الحياة، فإنه لم يزر دبي ولا يعرف تاريخ قرطبة أو تاريخ كل حواضر العرب، كلهم تعايشوا مع الأديان كلها، ونحن أيضاً نفعل الشيء نفسه، ونقدّم البرهان مرة أخرى على أن العيش في النهاية ما هو إلا التعايش الذي يدعو إليه الدين الإسلامي وتزهو به صفات حضارتنا)).

Email