الثورات بين من يتنبأ بها ومن يصنعها

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد حدوث ثورة 25 يناير في مصر، هناك من زعم أنه تنبأ بوقوعها. هذا ما أكده الناقد الإسباني خوان غواتسيلو، في محاضرة له ألقاها أثناء زيارته إلى القاهرة مؤخرا.

وأنا لست مع هذا الزعم، لأنني أذهب إلى أن الحدث، أياً كان نوعه، يحصل بصورة غير متوقّعة، وإلا فَقَد أهم سماته، أعني فرادته. ولهذا فإن الكثيرين من الكتاب، بمن فيهم ذوو الميول الثورية، ممن فاجأتهم الانتفاضات الشعبية، علقوا على ذلك بالقول: ما حصل أمر لا يصدقه العقل ولا يمكن تخيله حتى في الحلم. وهذا شأن الحدث عموماً؛ إنه ينبجس بصورة غير محسوبة ولا سابق لها. ولذا، فهو يخرق المعايير والشروط، بقدر ما يخربط الحسابات.

وأنا لا أقول ذلك الآن، بعد حصول الثورات، وإنما هذا هو مفهومي للحدث كما شرحته في غير موضع من كتبي، حيث أذهب إلى أن الأحداث الهامة والخطيرة، "تخالف التوقعات" وتقلب الأولويات. هذا ما قلته في كتابي "أزمنة الحداثة الفائقة" 2004، حول مفاعيل حدث عشنا، مع مطلع الألفية، "أجواءه وتداعياته"، أعني "تفجيرات أيلول" (2001) التي صدمت العقول، بقدر ما خربطت الحسابات والمعادلات.

وهذا شأن النصوص القوية والخارقة، كقراءات فوكو أو دولوز لسواهما من الفلاسفة. إنها تقرأ في النصوص "ما لم يُقرأ وما لم يكن متوقعاً"، بمعنى أنها تجترح إمكانات فكرية "بصورة غير مسبوقة ولا منتظرة"، وكما ورد في كتابي "هكذا أقرأ" (2005).

وبالطبع، هذا شأن أحداث كولادة الفلسفة والنص القرآني، أو الثورة الفرنسية والحرب العالمية، أو اختراع المطبعة والحاسوب.. فهي فتحت إمكانات خصبة وهائلة للتفكير والعمل، بقدر ما غيّرت العلاقة بمفردات الوجود، بالحقيقة والمعنى والهوية، أو بالزمان والمكان والإنسان... إنها وقائع خارقة تقلب العلاقة بين الممكن والمستحيل، بقدر ما تتيح للواحد أن يدرك ما كان يجهله من نفسه، أو يفعل ما لم يكن بمستطاعه فعله.

ولعل هذا ما حصل مع شبان الثورات الذين أقدموا على ما كانوا لا يجرؤون عليه، وفعلوا ما كانوا لا يقدرون على القيام به، وعلى نحو فاجأنا، لكي يكشف عن عجزنا وجهلنا. وقد قرأت لكاتب عربي كلاماً ينسب فيه القول بعدم إمكانية توقع الأحداث، إلى الكاتب الأميركي/ اللبناني نسيم طالب.

كما ورد في كتابه "البجعة السوداء، تداعيات الأحداث غير المتوقعة"، 2009). وأنا على يقين أن كاتبنا العربي الذي يتابع كتاباتي بدقّة، إنما يعلم حق العلم، أن كلامي على الحدث وعدم توقعه، كما شرحت ذلك في كتاب "ثورات القوة الناعمة" (2011)، إنما هو استعادة وتطوير لما قلته في كتبي السابقة على كتاب نسيم طالب.

أعود من ذلك إلى ما هو أهم، أعني أن الحدث العربي كما تجسد في الثورات المشتعلة، قد غيّر دلالة الأشياء وأدوات التحليل، بقدر ما غير علاقات القوة واستراتيجيات الفعل والتأثير، من غير وجه.

الأول هو أن مفهوم الثورة ذاته قد تغير، ذلك أن هذا المصطلح قد ترك أسوأ الأثر في النفوس، وصار يرمز عربياً إلى ما هو مكروه أو منفر أو مدمر، سيما مع ثورات الانقلابات العسكرية والأنظمة الشمولية التي أنتجت أشكالاً جديدة من العبودية. فمع اندلاع الثورات السلمية والناعمة، تكتسي الثورة بعداً تنويرياً تحررياً مختلفاً، يتجدد به المعنى على نحو مشرق وبناء، بقدر ما أصبح العمل الثوري محط الثناء والتقدير.

والوجه الآخر لتغير معنى الثورة، هو تجدد مفهوم الشعب، حيث المصطلح كان يفهم مع تجارب مجالس الشعب والمؤتمرات الشعبية، البائسة والفاشلة والكاريكاتورية، إلى ما هو شعبوي أو مبتذل، غوغائي أو استبدادي، ومع الثورات الراهنة تجدد المعنى، حيث كلمة "الشعب" باتت ترمز إلى القوة والحيوية والمشروعية العمومية أو المرجعية العليا والنهائية، في القضايا المهمة والشؤون المصيرية.

وبقدر ما تغير مفهوم الشعب، تغير أيضاً مفهوم الوطن الذي تشوه معناه مع الحركات الوطنية وأنظمة التحرر الوطنية التي حوّلت الأوطان إلى سجون ومعتقلات، أو إلى أمكنة تنتج الفقر والذل والبؤس. مع الثورات الجديدة تنفتح فرصة حقيقية، لكي يتحول الوطن إلى مكان للعيش بصورة حرّة، كريمة، لائقة، بحيث لا يعود الفرد المواطن، مجرّد صورة لسيّده أو عبد لاسمه، ولا يعود مجرّد خادم مطيع أو رقم في قطيع، بل يستثمر طاقته بصورة خلاّقة مفيدة، وعلى النحو الذي يمكّنه من أن يكون منتجاً وفاعلاً، ومشاركاً في صناعة ذاته وبناء مجتمعه.

حتى كلمة "عربي" أصبح لها رنين مختلف، بعد أن كانت مقرونة في كثير من الأحيان وفي بعض البلدان، بما هو عقيم أو إرهابي أو متخلف عن الركب الحضاري. مع الثورات الجارية استعاد العربي مبادرته وانتزع جدارته، بقدر ما غيّر الصورة السلبية النمطية التي تكوّنت عنه في الأذهان. والشاهد أن الكثيرين أخذوا يستلهمون النموذج الثوري العربي في التظاهر والاحتجاج، وفي اجتراح أساليب تغيير الأوضاع المزرية.

على أن أهم ما تسهم في تغييره الثورات الراهنة هو الأفكار، إذ هي بينت أن العالم تصنعه مع الثورة الرقمية قوى جديدة، بنماذجها ومفاهيمها وقيمها وأساليبها، تتجاوز ما كان سائداً في العصر الأيديولوجي الآفل، من الأنماط والعقليات والأطروحات والنظريات، سيما لدى الذين تعاملوا مع فتوحات العولمة وتحولاتها كفزاعة، كما نجد لدى تشومسكي أو بورديو أو سلافوج جيجيك أو سمير أمين، وسواهم من الذين كانوا يقرأون العالم بلغة فقدت مصداقيتها وراهنيتها.

من هنا لم يعد في وسع من خسر رهانه وأصبح على هامش الفعل ومناهض للغة العصر، أن يلعب دور الموجّه والمرشد للثورات الجديدة، كما يطالب بعض المثقفين. فمن يفعل ذلك يعيدنا إلى الوراء، بقدر ما يقدم قراءة مغلوطة للحدث.

ولنتأمل ما يقوله مثقف سوري عريق، هو رياض الترك الذي تعدّى الثمانين، والذي سلخ شطراً من حياته في السجون:

"الكلام الآن للشباب الثائر الذي صنع الحدث، لنفسح المجال للشباب. فماذا نفعل وشعبنا يتقدمنا ويعطينا الدروس في الشجاعة والتضحية" (جريدة الحياة، 29 يوليو/ تموز 2011).

لا يعني ذلك أن المثققين الذين تصدروا الواجهة، في الحقبة السابقة، ومارسوا الوصاية على الشأن النهضوي العربي، الإصلاحي أو الثوري، ليس لهم دور يلعبونه. وإنما يعني شيئين: ابتكار أدوار جديدة برفع الوكالة الحصرية عن القضايا العامة، ثم القيام بالمراجعة النقدية لتصوّراتهم وبرامجهم وخططهم، في ضوء ما فتحته ثورة الأجيال الجديدة من الإمكانات للنظر والعمل، للتفكير والتدبير.

 

Email