أميركا من الإنتاج إلى الاستهلاك

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاءت أزمة الدين الأميركي الأخيرة لتكشف عن مخاطر هائلة تواجه الاقتصاد الأميركي الحالي، وهي مخاطر لن تقف فقط عند حدود القارة الأميركية، بل سوف تتعداها إلى كافة مناطق العالم الأخرى المشتبكة مع العملة الخضراء. ولن يقف الأمر فقط على الاقتصاديات الصغيرة الدائرة في فلك الاقتصاد الأميركي والمعتمدة عليه بدرجة أو بأخرى، بل إنه سوف يتعدى ذلك إلى الاقتصادات القوية الصاعدة، مثل الاقتصاد الصيني بوصفه أكبر دائن لأميركا.

وبالتأكيد فإن الحديث عن ارتفاع سقف الدين الأميركي، الذي تجاوز لأول مرة حجم الإنتاج القومي الذي يبلغ 14.7 تريليون دولار، مسألة قد تدهش الكثيرين في ظل الإمكانيات الهائلة التي تملكها الولايات المتحدة، وفي ظل ضخامة اقتصادها وتنوعه الذي لا يضاهيه أي اقتصاد آخر في العالم.

وتتنوع أسباب ارتفاع هذه الدين بمثل هذا الشكل غير المسبوق، بين عوامل داخلية وأخرى خارجية، وإن كان الاثنان يتشابكان مع بعضهما البعض، بحيث يصعب الفصل في ما بينهما. وتعود تلك الصعوبة إلى الانفتاح الأميركي على العالم، من خلال التدخل الاقتصادي والسياسي والعسكري، وما يرتبط به من معونات وإنفاق في الكثير من مناطق العالم الأخري.

فالولايات المتحدة تنفق بشكل كبير على التدخل العسكري بما يرهق الميزانية الأميركية، وتكاد لا توجد منطقة في العالم لا تتدخل فيها الولايات المتحدة بشكل أو بآخر. وهي مسألة دفعت صانع القرار الأمريكي إلى اتخاذ قرارات بالانسحاب من بعض بؤر التوتر التي تكلف الخزانة الأميركية مليارات الدولارات، كما حدث في كل من العراق وأفغانستان.

كما أن الولايات المتحدة تهيمن بشكل كبير على المؤسسات المالية الدولية الكبرى، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مع ما يرتبط بذلك من نفقات وميزانيات سنوية تضمن لها العضوية في هذه المؤسسات والاستمرار في التحكم في السياسات النقدية الكونية. وعلى المستوى الداخلي، فإن الولايات المتحدة في ضوء سياسات الإدارة الجديدة، تنفق المليارات على الخدمات المرتبطة بالتعليم والصحة، وغيرها من الخدمات الهائلة الأخرى التي تكلف الخزانة الأميركية مبالغ فلكية سنوية، ترهقها وتزيد من حجم الدين العام.

والمشكلة الخطيرة هنا أن الإدارات الأميركية المتعاقبة، اتجهت إلى المؤسسات المالية المحلية والبنوك الداخلية من أجل الاستدانة، ويشير العديد من التقارير الرسمية الأميركية، إلى أن أكثر من نصف إجمالي الدين المالي الواقع على الحكومة الأميركية، يعود إلى مستثمرين محليين وبنوك حكومية وخاصة.

وهذا يعني أن جزءاً كبيرا من الدين الأميركي هو دين داخلي بالأساس، ناجم عن استدانة الحكومة الأميركية من المؤسسات المحلية الداخلية. وتؤدي تكلفة هذا الدين إلى زيادته بشكل كبير من سنة لأخرى، طالما أن الولايات المتحدة لم تقم بإجراءات تقشفية واسعة المدى، تؤدي لزيادة مداخيل الاقتصاد الأميركي من ناحية، وتقليص حجم الدين العام من ناحية أخرى.

والواقع أنه رغم أهمية الأسباب السابقة التي أوردناها بخصوص استفحال كارثة الديون الأميركية الحالية، فإن السبب الرئيس في تصورنا يعود إلى تغير السياسات الإنتاجية الأميركية منذ التسعينيات وبداية الصعود الصيني.

فقد تحول الاقتصاد الأميركي من اقتصاد قائم على الإنتاج الفعلي للسلع باختلاف أنواعها، إلى اقتصاد مستورد يعتمد اعتماداً كلياً على السلع الصينية التي غزت أميركا بشكل كبير، منذ التسعينيات وحتى الآن. فقد تخلت أميركا عن القيم المرتبطة بالعمل التي أسستها المرحلة "الفوردية"، واستطاعت من خلالها أن تقدم السيارة كواجهة للحضارة الصناعية الأميركية الصاعدة، واكتفت بموقف المراقب لحاويات السلع الصينية التي غزت كافة الولايات الأميركية.

لقد غير هذا التوجه بنية العمل والإنتاج الأميركية، وحولها إلى عالة على الاقتصاد العالمي، وبشكل خاص الاقتصاد الصيني، أكبر دائن خارجي للولايات المتحدة الآن. ولم يكتف الاقتصاد الأميركي بفتح أسواقه أمام البضائع الصينية الرخيصة، بل إنه قام بنقل خطوط مصانعه إلى الخارج سعيا لتحقيق مكاسب جديدة، من خلال العمالة الرخيصة والمزايا النسبية التي تمنحها الدول للمستثمرين الأميركيين، بغض النظر عن النتائج الكارثية التي نجمت عن ذلك، والتي يأتي على رأسها ارتفاع نسب البطالة وتراجع الشعور القومي واستشراء قيم الاستهلاك.

لا تحتاج الولايات المتحدة فقط لإجراءات تقشفية جديدة، بقدر ما تحتاج لسياسات اقتصادية جديدة تستعيد من خلالها قيم العمل والإنتاج والانتماء؛ فالدول التي لا تنتج شيئاً وتعيش عالة على الآخرين، لا تواجه فقط أخطار الديون، ولكنها تواجه أيضاً أخطار الانقسام والتفكك، وربما الانهيار.

Email