خرافة الثوابت في الزمن المتسارع

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول لي صاحبي إنني أتفاءل كثيراً، عندما أتوقّع من الثورات العربية الجارية أن تنجح في تحديث المفاهيم وتجديد العناوين، أو في حمل الآخرين، أعني غير العرب، على تغيير تصوراتهم للعالم وإلى نماذجهم في الفهم والتفسير. وأعود إلى التأكيد على موقفي بأن الثورات الراهنة هي عربية بقدر ما هي عالمية، وهي عالمية من حيث استثمارها للإمكانات التي فتحتها ثورة الأرقام والتقنيات، كما هي عالمية من حيث أثرها في المشهد العالمي.

فما حصل في كوبا من إصلاحات، ولو محدودة، هو أثر من آثار الثورات العربية. حتى في الصين وجدنا المسؤولين يتحدثون عن «حق الشعب في السعادة». ليكن، إذا شاؤوا عدم استخدام الشعارات المطروحة حول الديمقراطية والشفافية والتعددية والمجتمع المدني، ولكن لم يعد بوسع الصين أن ترجئ تحوّلها إلى مجتمع ديمقراطي تعددي مفتوح، فيما هي تمارس أقصى الانفتاح على الصعيد الاقتصادي. ما يعني أنه لم يعد يجدي أو يغني فهم العالم بأزماته وإخفاقاته، بطفراته وتحولاته، بنفس العدّة الفكرية المستخدمة لدى بيار بورديو أو نعوم تشومسكي أو جان زيغلر وأتباعهم من المثقفين العرب.

 فالديمقراطية والمواطنة والدولة والمجتمع المدني والحرية والعقلانية والعلمانية، وسوى ذلك من العناوين الحديثة، باتت تشهد أزمتها وتولّد مآزقها، ولذا فهي محتاجة، على أقل تقدير، إلى التغذية والتطعيم أو التلقيح بعناصر وأبعاد ووسائط وآليات وصيغ جديدة وراهنة.

وهكذا ولّى زمن النماذج الأحادية والأبدية التي تحتكر التفسير والتنظير أو التنظيم والتدبير، وهذا معنى نهاية أو سقوط الروايات الكبرى والمشاريع العريضة. نحن ننخرط الآن في واقع متسارع في زمنه، متدفق في معلوماته، متغير في معطياته، سيال في روابطه، مائع في حدوده، الأمر الذي يعني أنه محتاج لإدارته إلى مفاهيم جديدة، كالبعد المتعدد، والعقلانية المركبة، والمعايير المرنة، والقيم المتحركة، والبنى الرخوة، والعلاقات السيّالة، والهوية الهجينة، والاعتماد المتبادل، ولغة الشراكة والتسوية؛ أي ما أدرجه تحت خانة «العقل التداولي». فلم يعد بالإمكان أن تحكم الشعوب أو تدار المجتمعات بالعقل الأحادي المركزي والفوقي، أو النخبوي والبيروقراطي، أو الإمبريالي والإمبراطوري.

لنتأمل الواقع البشري والكوني كما هو آخذ في التشكل والتحول؛ التهجين يكتسح العالم، وما الكلام على نموذج أحادي، اصطفائي، استثنائي، كما ينظر له أو يسعى إليه المحافظون الجدد أو الرجعيون الجدد، عرباً وغير عرب، تراثيين وحداثيين، سوى حديث خرافة مآله عودة الأمور بشكلها الأسوأ أو الأخطر أو الأرهب. ولذا نظلم العصور الوسطى عندما نتهم أهل زمننا بالعودة إلى تلك العصور، لأن أهل العصور الوسطى كانوا يعيشون زمنهم بمعاييره ومفاهيمه وأدواته، أما أن نعيش اليوم بمفردات ذلك الزمن، فمآله فتح أبواب الجحيم في غير مكان من العالم.

قد يقال بأنني أدعو إلى التهجين، فيما الأكثرون يعدونه نقيض الأصالة، بما هو مسخ أو تشويه أو تلفيق.. ولكني أرى التهجين بعين أخرى، كتغذية أو تلقيح بالجديد من العناصر والأبعاد التي تولد غنى وثراء. كيف نفسر مثلاً صعود الكتاب المغاربة الذين يكتبون بالهولندية، ممن تلقى أعمالهم الرواج والتقدير وتفوز بأعلى الجوائز في آمستردام؟ إنه التهجين بما هو تلاقح مخصب بين اللغات والثقافات. بهذا المعنى، الأصالة هي القدرة على التعبير عن التجارب أو قراءة المعطيات، بالتحويل الخلاق والتركيب المبدع. أما أن تعني الأصالة النقاء أو الصفاء، فالمآل عندئذٍ هو الاستئصال.

كذلك قد يعترض، هنا، بأنني أقع في ما آخذه على الغير، أي أتمترس وراء مواقفي لكي أحول العناوين، كالعولمة وما بعد الحداثة، إلى أيديولوجيات مغلقة..

الآخرون هم الذين يريدون أن أكون مناضلاً أو مجاهداً دفاعاً عن الحداثة وعناوينها، أو جريئاً في نقد الهوية وثوابتها، الأمر الذي يجعلهم يتمترسون وراء الشعارات ويتعاملون معها كأيقونات مقدسة على سبيل التمجيد والتسبيح.

ولذا قلما أجد أحداً يناقشني في الأفكار والمفاهيم التي عملت على بلورتها، كالمنطق التحويلي، أو العقل التداولي، أو الإنسان الأدنى... أنا تحررت من خرافة الثوابت، بقولي: إن العلاقة مع الثوابت هي دوماً متغيرة.

والمهم أنني في ما أشتغل عليه من المعطيات أو أتناوله من القضايا والمسائل، لا أنطلق من حقائق مطلقة أو مرجعيات مقدسة، في ما أستخدمه من مناهج الدرس وأدوات التحليل، سواء تعلق الأمر بالنص الديني أم بالخطاب الديكارتي، بنصوص ابن عربي أم بأعمال ميشال فوكو، لأن شاغلي هو أن أشتغل بأدوات حقلي، على نحوٍ يسهم في تشخيص الأزمات والمشكلات، بقدر ما يسهم في تجديد أو تطوير شبكات الفهم وصيغ العقلنة أو معايير العمل وقواعد المداولة.

على هذا النحو أتعامل مع العولمة وما بعد الحداثة أو الحداثة الفائقة، أي بوصفها طفرات وتحولات معرفية وثقافية، أو ثورات وانفجارات علمية وتقنية، لا يمكن لعاقل أو متدبر نفيها أو التخلي عنها. فهي معطيات استجدت في الواقع الكوني، بقدر ما هي إمكانات فتحت يجدر بنا العمل عليها واستثمارها.

إن الإقامة في الزمن المتسارع، تعني أن التغير بات نظام الأنظمة الذي يوجه كل المدارس والاستراتيجيات، بقدر ما تعني أن ما نحسبه العطب، أي الموقت والعابر، هو الممكن الآن.

هذا ما تفعله المجتمعات الحيّة والغنية. إنها لا تتوقف عن تغيير مدارسها الفكرية واستراتيجياتها الكونية، فمن باب أولى أن يكون تغيير العدّة الفكرية والمهمة الوجودية، هو ما يحرك الضعيف أو العاجز، لكي يصنع معجزته.

وهكذا، فالمتاح، على النحو المجدي والفعال، هو أن نتغير لكي نسهم في فهم المجريات والسيطرة على الأحداث أو إدارة التحولات، وذلك بعيداً عن التعبّد الأعمى للمقولات، أو الغرق في السجالات العقيمة حول التسميات، قديمة كانت أم حديثة أم ما بعد ذلك.

فاختراع المصطلح قد يكون دليل غنىً وتجدّد ومصدر قوة، عندما يشير إلى فتح أفق أو تفتيق قدرة أو اجتراح إمكان أو استثمار مجال أو فك طوق أو خرق شرط... وبالعكس؛ إنه يمسي دليل جمود أو ضعف أو تراجع، عندما يتحول إلى وثن فكري أو صنم عقائدي نخشى عليه من المتغيرات، أو نجرّده من نبض الحياة، أو نسلخه عن أرض الواقع المضطرم والعالم المعاش.

ولذا ليس المهم الخانة الإيديولوجية التي نصنف فيها أنفسنا، بقدر ما تهم القدرة على الخلق والابتكار والتحوّل. أن نفكر ونؤلف أو نكتب وننشر، لا يعني أن نقلد ونكرر، بقدر ما يعني أن نقرأ الواقع ونسعى إلى مقاومة ضغوطه أو إلى تدبره وإدارته، عبر مضاعفته وتحويله إلى مفهوم أو أسلوب أو سرد أو نموذج أو معادلة أو نظرية أو قيمة أو قاعدة...

Email