«تعالوا نكتب دستورنا»

ت + ت - الحجم الطبيعي

في حالة فريدة من نوعها، أطلق شباب التحرير في مصر مبادرة تحمل عنوان المقال، من أجل كتابة دستور يتفق وما يدور في عقول المصريين ويعبر عن توجهاتهم وأحلامهم. ليس المهم هنا طبيعة المبادرة ذاتها، قدر أهمية المبادئ التي وضعها شباب الثورة في دليل أطلقوا عليه "دليل المتطوع"، يحدد للشباب كيفية تواصلهم مع المصريين وطريقة المقابلات وجمع المادة المطلوبة.

والواقع أن ما وضعه الشباب في هذا الدليل، أقرب للأخلاقيات الواجب اتباعها في البحوث الميدانية السوسيولوجية، وضعها الشباب بعفوية الثورة وبراءتها. ماذا جاء في هذا الدليل؟ وما دلالته بالنسبة للحالة الثورية المتدفقة التي تعيشها مصر الآن؟

حدد الشباب المبادئ التالية، كموجهات عمل لآلاف المتطوعين الذين يجمعون المادة المطلوبة حول ما يفكر فيه المصريون الآن، بخصوص الدستور:

1- الغرض من الاستمارة دي مش توعية للناس، وإنما طريقة لمعرفة أحلام وطموحات الناس عن مصر بعد الثورة.

2- مش مهم الناس ترد على الأسئلة الرد الصح من وجهة نظرك، المهم أننا نعرف هما بيفكروا فى إيه.

3- اسمعوا الناس من غير ما تفرضوا رأيكم عليهم.

4- المهم إن الناس تكون بتقول تصوراتها بجد، مش إنها تكون بتقول الكلام اللي حاسّين إنه بيرضينا.

5- ساعات الناس بتاخد وقت علشان ترد، دي حاجة كويسة ومعناها إنهم بيفكروا ومش لازم نستعجلهم (حتى لو شكلهم متلخبط)، أحيانا أعمق التعليقات تأتي بعد دقيقة من الصمت.

6- لو ما فهموش السؤال ممكن تعيده تاني أو تفسره، بس بلاش تدي أمثلة علشان ما نحدش من خيالهم.

7- لا بد من كتابة الإجابة فور الرد، وكتابة ما يقال بالضبط.

8- اللي إحنا بنعمله ده عكس التوعية تماما، لأننا بندور على اللي احنا ما نعرفهوش عن الناس.

وتتعدد الدلالات التي ترتبط بهذه المبادئ، التي تتجاوز الحالة السياسية المصرية الراكدة المرتبطة بالنظام السابق، بل إنها تقدم في الوقت ذاته بيان عمل سياسي بالغ الأهمية والحركية. أول هذه الدلالات هو كتابة هذه المبادئ بالعامية المصرية، بلغة بسيطة ومحددة وقادرة على تحديد المطلوب من المتطوعين.

 واستخدام اللغة العامية لا يعكس ضعفا في القدرات التعبيرية لشباب الثورة، بقدر ما يعكس رغبة واضحة في التواصل بلغة الشارع، وتجاوزا مرحليا للغة النخبة وما يرتبط بها من استعلاء بنيوي.

ويرتبط بما سبق، ثاني هذه الدلالات التي تتعلق بالتأكيد على أن الغرض من هذه الاستمارة، لا يتعلق بأي شكل من أشكال التوعية بقدر ما يرتبط بالرغبة في التعرف على أحلام وطموحات المصريين. إن أهمية هذا المبدأ أنه يتجاوز الفكر السياسي السابق، الذي كان يتصور دائما أنه يعلم كل شيء عن المصريين ويخاطبهم بلغة الإرشاد والتوجيه!

ويرتبط بذلك أيضا أن تلك المبادئ تؤكد على أهمية عدم تقييم استجابات المصريين بمنطق الخطأ والصواب، بقدر الحصول على الاستجابات كما يراها أصحابها، وبمحض إرادتهم، دون تعالٍ أو تصور مسبق لطبيعتها.

إن الاستجابات الحقيقية الصادقة، تفضي إلى فهم حقيقي لمتطلبات الجمهور، وتساعد بدرجة أو بأخرى على تصحيح المسار السياسي لثورة المصريين، وهي مسألة تؤكد عليها هذه المبادئ التي يحددها شباب الثورة.

وتتعلق ثالثة هذه الدلالات، بالتأكيد على أن الهدف من هذه الاستمارة يكمن في الحصول على إجابات واضحة وصادقة ودقيقة من الجمهور؛ وفي ضوء ذلك يأتي تأكيد هذه المبادئ على إتاحة الوقت للجمهور، للإجابة والتريث في الردود.

وهي مسألة ترتبط أيضا بالتأكيد على ضرورة عدم التدخل والتوضيح، بما قد يفضي إلى تحديد مسار الاستجابات ويُخضع المبحوث لأهواء الشباب وتوجهاتهم. وتنبع أهمية هذه المبادئ، من أنها لا تمارس ما يقوم به بعض الاتجاهات من فرض رؤاها على الجماهير بذرائع مختلفة، يأتي في الصدارة منها اللعب بالخطاب الديني، وما يرتبط به من استهداف لمشاعر البسطاء الغلابة من المصريين.

وتتعلق آخر هذه الدلالات، بذلك التواضع أمام الجماهير، والرغبة في التعلم مما تقدمه من طموحات وأحلام؛ ففصائل شباب الثورة يقدمون نموذجا جديدا في التعامل مع الجماهير وكيفية المكوث في حضرتها، وهو نموذج يكاد يغيب تماما عن الساحة السياسية الرسمية في العالم العربي.

إن مبادرة كتابة الدستور التي يقدمها شباب الثورة، تحمل آمالا عريضة بحجم التغيير الذي يطال المجتمع المصري، كما تخلق مستويات جديدة من الوعي والحلم بالتغيير، الذي وأده النظام السابق وزمرته الحاكمة ومن يدورون في فلكهم.

Email