الشاعر والساسة سعيد عقل وساركوزي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشاعر اللبناني سعيد عقل هو أكبر شاعر عربي حيّ، بعد بلوغه عامه المئة. وبهذه المناسبة أقيم احتفال لتكريمه من جانب البطركية المارونية. وسعيد عقل متعدّد الوجوه والأدوار. هو شاعر كبير. وأنا أجد بأنني بغنى عن التعريف به، إذ هو أشهر من أن يُعرّف، بالنسبة لقراء العربية والمهتمين بالشعر.

إنه من صنّاع العربية الأفذاذ بمفرداته وتراكيبه، بأسلوبه واشتقاقاته. ومع أنه دعا إلى الكتابة بالمحكية اللبنانية، وكانت له محاولات في هذا الخصوص، إلا أنها كانت مجرّد دعوة ولم تكن صنيعاً أو إبداعاً شعرياً. فشهرة سعيد عقل قامت على كونه شاعراً باللغة الفصحى التي هي أقرب إلى اللغة الكلاسيكية، بالرغم من تأثّره بالشعر الغربي الحديث.

 وسعيد عقل هو، من وجه آخر، صاحب مشروع أيديولوجي، ملخّصه أن لبنان بلد قائم بذاته منذ الأزل، فريد في وجوده بين الأمم. وبالطبع هو مشروع على مثال صاحبه الذي يعشق ذاته حتى التألّه، عُشقه للبنان حتى الجنون. من هنا، فما أحبّ سعيد عقل في النهاية سوى نفسه، وتلك هي أسطورته التي لها مفاعيلها بقدر ما لها حقيقتها ووقائعيتها.

غير أن مشروعه للبنان، كثيراً ما قدِّم أو فُسِّر بوصفه معادياً للعرب والعروبة. وفي جلسة مع الشاعر الكبير شارك فيها آخرون، احتدم الجدل حول العروبة والأمة والهوية. وأنا كنت صامتاً، إلى أن هدأ النقاش، عندها قلت لشاعرنا: أنت عربي، لغةً وثقافةً، كونك تقرأ في العالم العربي من محيطه إلى خليجه. ولكنك لست عروبياً، لأن العروبة منظومة ايديولوجية ودعوة سياسية. عندها اعترف بأن الشاعر السوري سليمان العيسى كان يقول عنه بما معناه إن سعيد عقل يغني اللغة العربية كلما نظم قصيدة بالفصحى.

من هنا، فأنا أميز، عند سعيد عقل، بين الداعية وبين الشاعر والكاتب، لكي أصل إلى الوجه الثالث، وهو أن سعيد عقل "ابن معرفة" كما يقول عن نفسه، بمعلوماته الدقيقة وثقافته الغنية والواسعة في كلّ حقلٍ ومجال، كما تشهد محاضراته في الجامعات أو افتتاحياته في الجرائد الذي كتب على صفحاتها.

وهو ذو معرفة عملية تختصّ بتحسين الأحوال في بلده لبنان. ومن أقواله في هذا الخصوص: لو أحسن القائمون على الأمر التدبير، في مسألة المياه، لقايض لبنان، دول الخليج، الماء بالنفط، نظراً لكونه يملك ثروة مائية كبيرة. ولكن هذه الثروة تذهب هدراً إلى البحر، لأن الشغل الشاغل للساسة وجماهيرهم هو كيفية القبض على الأمر والاستيلاء على البلد، بأي ثمن، ولو أفضى ذلك إلى الهدر والنهب والنزاع والخراب. فمتى يعود اللبنانيون إلى صوابهم، لكي يستمعوا إلى ذوي الرأي والدراية والتدبير؟!

فتحيّة إلى الشاعر الكبير الذي أحسن بفكره وشعره وإبداعاته، غاية الإحسان، إلى بلده الذي لا يحسن بعض ساسته سوى الإساءة إليه، أو الإساءة إلى مَنْ يُحسن إليه.

 

عُقد الساسة

أعدّت مجلة «ماريان» الفرنسية ملفاً طريفاً وشيّقاً حول المرشحين لرئاسة الجمهورية، وهم كُثُر يتصدّرهم الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي الذي يعتزم الترشّح لولاية ثانية في الانتخابات التي سوف تجري في الربيع المقبل. وجهُ الطرافة في المسألة أن الملف هو عبارة عن تحقيق لا يتطرق، مباشرة، إلى مواهب المرشحين وكفاءاتهم أو إلى رؤاهم وبرامجهم.

وإنما يدخل عليهم من باب التحليل النفسي للوصول إلى اللاوعي، ذلك الفاعل المجهول الذي يقيم في كواليس الوعي والعقل. من هنا يهتم التحقيق بتعرية الدخائل، للكشف عن تلك المنطقة من النفس التي يُؤْثر المرء السكوت عليها، بل التي يجهلها من ذاته، والتي تؤثّر في عقله وسلوكه من حيث لا يعي ولا يحتسب.

وهكذا اجتمع عدد من مشاهير المحلّلين النفسيين لكي يشرّحوا نفسية كل واحد من المرشحين، ممن قد يصبح رئيساً للفرنسيين يتولى إدارة شؤونهم وحلّ أزماتهم. وفي أحيان كثيرة يصل التشريح إلى حدّ التجريح في الشخص الذي هو محل الكشف والتعرية.

والأطرف في التحقيق هو الفقرة المخصّصة للرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، إذ هي تبدأ بالإشارة إلى أنه سوف يصبح أباً للمرة الرابعة من زوجته الثالثة كارلا بروني، مع أنه أصبح جداً، فضلاً عن كونه بات في 55 من عمره. وهذا أمر نادر في فرنسا، إذ بالكاد ينجب الزوجان ولدين اثنين على عددهما.

المهم أن التحليل كشف أن ساركوزي مصاب بعقدة "الفطام"، ولذا فإن نمط العلاقة الذي يقيمه مع مواطنيه، يشبه نمط العلاقة الذي يقيمه الطفل الرضيع مع ثدي أمه. فكما أن الرضيع، وتحت تأثير هاجس الحاجة إلى الغذاء، يفعل كل ما من شأنه أن يجعل أمه تحنو عليه ولا تنقطع عن إرضاعه، كذلك فإن ساركوزي، وتحت تأثير هاجس الحاجة إلى أن يكون منتخباً، يفعل كل ما من شأنه ان يجعل المواطن الفرنسي يعجب به ويصوّت له في الانتخابات المقبلة.

كما تشهد تصرفاته اليومية وإطلالاته التلفزيونية. وهكذا لم يستطع الرئيس الفرنسي الانفصال عن ثدي أمه، الذي يرمز هنا إلى جمهور الناخبين. من هنا يخلص أحد المحللين في تشخيص عقدته، إلى أن هناك «طفلاً كبيراً» يقيم في قصر الإليزيه الرئاسي، متسائلاً: هل ولادة طفل حقيقي لساركوزي، قريباً، سوف ينهي مرحلة الفطام؟!

وهكذا يمضي التحليل، بالنسبة إلى كل مرشّح، بالكشف عن علّته أو فضح عقدته. فهذا مصاب بالعصاب، وآخر بالهلوسة، وثالثة بالحرمان، ورابعة بعقدة الأب. كل ذلك يتم من غير خفر أو حرج، إذ القوانين تسمح بتناول الساسة والرؤساء على هذا النحو الذي لا يخلو من قدح أو هزء.

وهذا شاهد على الثقافة الديمقراطية الراسخة في المجتمع الفرنسي، بما تعنيه من الحِسّ النقدي والوعي الضدّي. إنها ما أسميه العين النقدية التي ينظر بها المجتمع في الدول الديمقراطية إلى نفسه، كي لا تطغى إرادة الهيمنة وأعمال الفساد أو ممارسات الشعوذة، وسواها من الآفات التي لا ينفك يولدها الاجتماع بين البشر، والتي تحتاج على الدوام إلى التصدّي لها وفضحها، بالمراقبة والمراجعة والمحاسبة.

عندنا تجري الأمور على العكس، إذ النقد لشخص الرئيس يعرض صاحبه للأذى. بالطبع هناك لياقات وآداب تقضي باحترام المرء لرؤسائه، سواء في مخاطبتهم أو في ما يخصّ الاعتراض على سياساتهم.

ولكن الأمر عندما يتعدى مسألة الاحترام واللياقة. ثمّة تقاليد راسخة يعامل بموجبها بعض الرؤساء كآلهة تقدم لهم فروض التعظيم والتبجيل والتسبيح. بالطبع يجري التستّر على إرادة التألّه هذه، باستخدام عبارات الأخوة، كما يجري في بعض البلدان العربية، حيث تضاف كلمة «الفخامة» إلى كلمة «الأخ»، فيقال:

فخامة الأخ الرئيس. هذا في حين أن الرئيس المعني قد يكون أساء حكم بلده أو أفقر مجتمعه أو أطلق النار على المواطنين العزّل، أو قاد شعبه إلى الحرب الأهلية. فيا لها من أخوة كاريكاتورية، خادعة، ولكن قاتلة.

 

Email