وداعاً محمد خليفة بن حاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

خسرت الإمارات العربية المتحدة واحداً من خيرة أبنائها. أما أنا فأبكي صديقاً عزيزاً كان بمنزلة أخ لي. كان لمحمد خليفة بن حاضر الذي كنت أناديه تحبّباً "أبو خالد"، قلب قوي؛ كان صلباً وشجاعاً، وخلال زيارته الأخيرة إلى باريس، انتقل إلى رحمة الله تاركاً هذه الدنيا الفانية باكراً.

شكّل موته المفاجئ صدمة لي شخصيا، ولكل من أحبوه.. وأرجو من الله عز وجل أن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان. ومما لا شك فيه أننا سنفتقد "أبو خالد" كثيرا.

كان محمد محاطاً بالعائلة والأصدقاء والمعجبين الذين أغنوا حياته. كــــان هــذا الدبلوماسي السابق الذي عمل في لبنان وباكستان، والذي كان عضواً في "المجلس الوطني الاتحادي" في الإمارات العربية المتحدة، رجل أعمال ناجحاً، وكاتباً وشاعراً إماراتياً ذائع الصيت. كان رجلا حكيما، بعيد النظر، وقد أدرك أهمّية التعليم. ساهم في تأسيس "الندوة"، وهي جمعية إماراتية ثقافية وعلمية، وساعد على إطلاق جائزة راشد للتعليم العالي، التي تقدم المنح الدراسية للطلاب الواعدين.

قد يكون لي الكثير من المعارف والأصدقاء، لكنني أملك عدداً قليلاً جداً من الأصدقاء بالمعنى الحقيقي للكلمة، أصدقاء يساندونني عندما تشتدّ الأحداث، وأستطيع أن أتقاسم معهم تجارب الحياة وتحدّياتها. لم يكن أبو خالد صديقاً استثنائياً وحسب، بل كان أيضاً مثقّفاً ومفكّراً وإنساناً استثنائياً.

ويحزنني رحيل مثل هذا الطراز النادر من الرجال، فأبو خالد كان من الإماراتيين القلائل الذين يتكيّفون مع نمط الحياة العصري بطريقة مثيرة للإعجاب، لكنهم لا ينسون أبداً المبادئ والأخلاقيات وكرم الضيافة التي لطالما تميّز بها أبناء الخليج.

لقد كان موسوعة متنقِّلة في التاريخ والثقافة والتقاليد العربية، وخبيراً ضليعاً في اللغة العربية؛ كان مطلعا على مجريات الأحداث في العالم العربي. وفخوراً إلى أقصى الحدود بهويّته العربية (يؤلمني كثيراً أن أتكلّم عنه في صيغة الماضي)، ويُبدي احتراماً كبيراً لإرثه العربي. لكنه كان قبل كل شيء، إنساناً وطنياً مستعدّاً للتضحية بحياته من أجل حماية بلده وشعبه. وحمل أيضاً لواء القضايا العربية، وأعلم أنه كان قلقاً، مثلي تماماً، من التعدّي الفارسي على المنطقة.

كان رجلاً ودوداً وعاطفياً، وكانت هاتان الميزتان تظهران في ابتسامته وقصائده. كان يحب الحياة والرومنسية. كان يُقدّر الحب النقي، الشكل الأسمى من الحب الذي يلامس قرّاء الشِعر العربي في أعمق أعماقهم، فيسافر بهم في لحظة ثمينة إلى مكان بعيد. وقد شعرت باعتزاز كبير عندما علمت أن بعضاً من تلك القصائد استوحي من القصص التي أخبرته إياها خلال محادثاتنا. كان مهذّباً إلى أبعد الحدود، لكن عندما كان يرى خللاً ما، لم يكن يتردّد في التكلّم جهاراً، ولم يحجم يوماً عن قول الحقيقة كما يراها، ومهما كانت مؤلمة.

أتمنّى لو سنحت لي الفرصة لأودّعه وجهاً لوجه؛ لم يبقَ لي سوى هذه الكلمات القليلة لأعبّر بها عن أسى الفراق. وكنت أتمنّى، ربما عن أنانيّة منّي، لو أنه بقي معنا لوقت أطول. ليتني أتمتّع بالموهبة الشعرية التي كانت لوالدي الراحل، أحمد، كي أكتب لأبو خالد باللغة الأحبّ على قلبه، لكنني آمل في أن يصله الإحساس الذي سطّرتُ به هذه الرسالة البسيطة.

أخي العزيز أبو خالد،

في هذه الأزمنة المضطربة، في هذا الوقت الذي نحتاج فيه إليك، ها أنت ترحل عنّا.. ما أحوجنا إلى أفكارك الصافية، وآرائك الشجاعة، وعروبتك وأبياتك الجميلة..

عندما أتذكّر قصائدك النابعة من القلب، والتي تنضح بالأحاسيس والمعاني، أفتقد حضورك. لم تكن قصائدك مجرد قوافٍ؛ لم تحمل قط قلمك بهدف استقطاب المديح أو الاستحسان.. بل كانت نابعة من أعماق روحك، وكانت دائماً غنيّة بالمعاني على خطى التقليد الذي خطّه الشعراء العرب الكبار الذين سبقوك.

وطنك يفتقدك، أبو خالد. كن واثقاً بأننا لن نألو جهداً لنرفع أكثر فأكثر العلم الإماراتي الذي تعتزّ به.

لقد فقدنا مواطنا لا يُعوَّض، وأتمنى من حكومتنا أن تحيي ذكراك وتُكرِّم إرثك، بإطلاق اسمك على معلم في بلادنا. أما أنا فلن أنساك أبداً حتى آخر رمق من حياتي.

Email