الثقافة والتحولات الثورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تستدعي الثورات العربية فعلا ثقافيا جديدا، يختلف عما كانت عليه الممارسات الثقافية فيما قبل؛ فالثقافة الغالبة في مرحلة ما قبل اندلاع الثورات العربية، تختلف عن تلك التي يجب أن تسود الآن.

لا يعني ذلك النهاية الفورية لكافة المنتجات الثقافية السابقة، التي سوف تستمر لفترات تطول أو تقصر، حسب قدرة القوى الثورية الجديدة على فرض رؤاها وإزاحة القوى الرجعية المرتبطة بالنظم البائدة. وإذا كان الصراع السياسي يبدو واضح المعالم، فإن الصراع الثقافي هو الأصعب مجتمعيا، بسبب تعدد العناصر الداخلة فيه، وتنوع المنتجين له والمشاركين فيه، وعدم الشعور بتأثيراته بشكل مباشر.

وتوجد مجموعة من الاختلافات بين التشكيلة الثقافية لمرحلة ما قبل الثورة، وبين تلك التي يجب أن تسود في المرحلة الراهنة، رغم الصعوبات الهائلة المرتبطة بذلك.

فإذا كانت الثقافة السابقة قد ارتبطت لعقود طويلة بالنظام السياسي الرسمي ومؤسساته المختلفة، فإن الثقافة الجديدة سوف تؤسس مرتكزاتها على القطيعة مع هذا النظام وكافة المؤسسات المرتبطة به. لا يعني ذلك عدم التعامل مع تلك المؤسسات، بقدر ما يعني أن ذلك التعامل سوف يأخذ منحى جديدا بشروط جديدة، هي شروط الفعل والغلبة الثوريين.

فالثقافة السائدة في دول الثورات العربية، وبالطبع في مختلف الدول الأخرى، هي الثقافة الرسمية المرتبطة بالنظم السياسية ومؤسساتها المختلفة؛ فهي تعبير مباشر عما توافقت عليه تلك النظم، وعما ترتضيه.

من هنا فإنه من الصعوبة بمكان في الكثير من الدول العربية، أن نعثر على أدب حقيقي يقارب الواقع، ناهيك عن تجاوزه. بل إن اللافت للنظر أيضا، هو طبيعة الجوائز الثقافية في الكثير من هذه الدول، والتي لم تخلق سياقا ثقافيا عميقا ومتجذرا في الواقع العربي، بقدر ما أوجدت وخلقت سياقات احتفالية ديكورية.

لا يعني ذلك أن كل الدول العربية سواء في النظر للمنتج الثقافي، فقد سبقت مصر الكثير من الدول العربية في المنتج الروائي على وجه الخصوص، الذي جاء في الكثير من جوانبه فاضحا للنظام السابق سياسيا واجتماعيا، وهو ما خلق مجموعة من المبدعين الراديكاليين، الرافضين للتعامل مع المنظومة الثقافية الرسمية للنظام. وسوف يخلق هذا التغيير صعودا جديدا لهؤلاء المبدعين في مرحلة ما بعد الثورة، وهو صعود لن يرتبط فقط بتواصل إنتاجهم الإبداعي، لكنه سيرتبط أيضا بظهور تشكيلات مؤسساتية جديدة، قد تعمل بالاتفاق أو بالتعارض مع المؤسسات الرسمية.

فلن يكتفي المثقفون بالعمل من خلال المؤسسات الرسمية التي سوف تغير بالضرورة من توجهاتها السياسية والفكرية، لكنهم سوف يقومون بتأسيس التجمعات الخاصة بهم، والتي تعكس توجهاتهم الفكرية المختلفة في أجواء ما بعد الثورة التي تشملهم بحرياتها ومساراتها الجديدة.

ولعل ما يساعد على اسشراء التوجهات الثقافية الجديدة، هو التراجع الذي سوف تشهده الساحة بالنسبة للكثيرين من أتباع النظام السابق، الذين تماهوا مع توجهاته وأمطرونا بمنتجاتهم الثقافية السطحية.

وتتسم البنية الثقافية في فترات ما بعد الثورة، بالتنوع الشديد الناجم عن صعود العديد من القوى التي كان من الصعب عليها ممارسة العمل السياسي والثقافي من قبل. وتشمل هذه القوى كافة التوجهات السياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو ما يعني تنوعا جديدا غير مسبوق للمنتجات الثقافية القادمة، وقد يفضي إلى العديد من أوجه الصراع، خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار الصعود الجديد لبعض التيارات الدينية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.

وأغلب الظن أن الساحة الثقافية في مرحلة ما بعد الثورة، لن تشهد صراعات سياسية جديدة ومتواصلة، في ضوء ما حققه الثوار وفي ضوء التراجع الذي لحق بالنظم البائدة وأعوانها. لكن الساحة الثقافية مهيأة لأن تشهد صراعات أيديولوجية بين الاتجاهات الدينية، وغيرها من الاتجاهات الأخرى الليبرالية واليسارية، في ما يتعلق بحرية الإبداع والإنتاج الثقافي، خصوصا إذا ما اصطدمت مباشرة بالمقدس الديني.

ولن يقف الصدام عند هذا المستوى، بل قد يتعداه إلى الساحة الإقليمية العربية. فالمثقفون الجدد المرتبطون بالأطر الثورية، سوف يخلقون حالة إبداعية ونقدية جديدة، لن تقبل بالإرتكان للفكر الذي كانت تسانده النظم البائدة وتدافع عنه وتعمل على تجميله، بقدر ما ستعمل على نقده ومهاجمته بسهولة ويسر ناجمين عن عفوية الممارسة الثورية، التي حرمتهم منها النظم السابقة.

من الخطيئة بمكان أن يتصور البعض أن الثورات العربية ستقف فقط عند ساحة المواجهات والتغييرات السياسية؛ فالواقع أن الثورات سوف تخلق معها ثقافتها الجديدة، التي ربما تكون تأثيراتها المرتقبة أكثر عمقا وتجذرا في الواقع العربي الراكد، مما أحدثته تأثيراتها السياسية.

Email