أين هو الإنسان؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة من يتباكى على الأفكار الكبيرة التي وقفت وراء المشاريع والبرامج والأعمال، في عصر ازدهار الروايات الكبرى والأيديولوجيات، ومنها شعار الإنسانية الذي كان أحد عناوين الأزمنة الحديثة. ومن هنا خوفهم أو فزعهم من مقولة «الإنسان الأدنى"، التي يعتبرونها نوعاً من جلد الذات يفضي إلى العدمية.

ولكن، أين هو الإنسان الذي بشّرنا به، بعد عهود من الإرشاد الديني والتعليم الخلقي والتنوير الفلسفي، وراء كل هذه الشعارات الكبيرة والعناوين العريضة؟ أين هو الإنسان وسط هذا التلوث البيئي والتدهور الأمني والإفلاس الوجودي والتصحّر المعنوي؟ أين هو الإنسان، عندنا، وسط كل هذا التوحّش الذي تنتجه ثقافتنا ومجتمعاتنا، كما يتجسّد في آليات القهر والتطبيع والتدجين أو في ممارسات الخطف والقتل والتعذيب؟

لنعترف بالحقيقة؛ إن التاريخ لا تصنعه الأفكار الكبيرة والقيم النبيلة والدعوات المثالية، وإلا لكان العالم أفضل بكثير، أو أقل سوءاً مما هو عليه. ما يصنع العالم، بدرجة كبيرة، من خلف أو من تحت الشعارات المعلنة والخطابات الرسمية والمشاريع الإنسانية، هو التفاصيل الصغيرة والهموم الشخصية والمشاعر الحميمة، والأحقاد الدفينة والعُقد المستعصية والنزوات الغريبة، وكل ما نحاول حجبه لكي يفعل بصورة مضاعفة وغير مرئية.

ومع ذلك، لا أقول بأننا لا نسيطر على أعمالنا ولا نملك زمامنا أو نتحكم في مصائرنا. فما جدوى العمل والسعي إلى التغيير نحو الأفضل إذا كنّا محكومين لآليات وقوانين وميول لا قبل لنا بالسيطرة عليها؟!

من هنا لا أقول بالحتميات المقفلة، سواء بأشكالها الجَبْرية القديمة كما نجدها لدى مذاهب اللاهوت وأصحاب نظرية الخلق، أو بأشكالها التقدمية الحديثة كما نجدها لدى أصحاب المذهب التاريخي والفكر الماركسي، وسائر الذين يعتبرون أن للعالم نظامه الممسوك أو قوانينه الثابتة، التي ينبغي علينا معرفتها لكي ننسجم معها أو نسخرها لمصلحة الإنسان.

لسنا سادة الكون ولا القابضين على مفاتيح العالم، كما يدعي المتألهة. ولكننا لسنا في المقابل مجرّد ألعوبة في مهبّ الحوادث، أو أسرى لآليات الطبيعة وأحابيل الغريزة، كما يقول الجبريون. نحن بين بين؛ لا نقبض على قوانين التاريخ والعالم، ولا نسيطر على أنفسنا سيطرة تامة، تماماً كما أننا أبعد ما نكون عن القبض على حقيقة مطلقة أو تطبيق خطة مرسومة بصورة محكمة، بدليل ما نفاجأ به، بعد كل هذا التقدم العلمي والتقني، وبعد كل هذه الأنشطة المعقلنة والمبرمجة، من الكوارث، ليس من جهة الطبيعة وآلياتها العمياء، بل من جهة الإنسان وصنائعه.

ولذا ما بوسعنا القيام به هو أن نخلق ما به نساهم في صنع الحدث أو نكون على مستواه، بتعديل الوجهة أو خرق الشروط أو تغيير قواعد اللعبة أو إعادة ترتيب الأولويات... ولكن مع إدراكنا أن ما نخلقه يتجاوزنا ويندّ عن سيطرتنا، أكان المخلوق نصاً أم حرباً؛ ولأن ما نخلقه من الوقائع هو كذلك، فإنه يشكّل إمكاناً مفتوحاً على شتى الاحتمالات وتعدد التأويلات، بقدر ما يشكل فرصة، من جديد، لكي نتعاطى مع الواقع بلغة الخلق والتحويل، أي لا لكي نقبض عليه، بل لكي نحسن إدارته وتسييره، بصورة إيجابية وبنّاءة، أو بأقل الأكلاف والأضرار، على أقل تقدير.

ما المؤدى من ذلك في ما يتعلق بمسألة الحرية؟ جوابي أن القول بوجود حتميات يخضع لها العالم، سواء بالمعنى اللاهوتي أو العلمي، هو الذي يبطل معنى السعي، إذ يجعل الإنسان أسير قوانين الضرورة القاهرة. وبالعكس، فما ينعش الأمل هو التعامل مع العالم كحقل مفتوح على غير خط أو اتجاه أو معنى من الإمكان. بهذا المعنى نحن نساهم في صنع العالم وتغييره، بقدر ما تصنعنا أحداثه وتحولاته، أو نسخر الطبيعة ونستغلها، ولكن بعد أن ندفع الثمن، كما تتوالى من جانب الخبراء والعلماء الإنذارات حول دمار الطبيعة.

إذا كنا لسنا سادة أو حاكمين، فما هو دورنا إذن؟ الاجدى التخلي عن مفهوم السيادة بالمعنى الديكارتي، أو الخلافة بالمعنى اللاهوتي، نحو مفاهيم مثل الإدارة والتسيير أو التشغيل والاستثمار...

في أي حال، إن نقد الرؤية الحتمية مآله كسر النظرة الإمبريالية والمركزية، المستقيمة والتقدمية، للتاريخ نحو نظرة أخرى لولبية، مواربة، مزدوجة، متحركة، مركبة، تأخذ بعين الاعتبار التراجعات والارتدادات، الانقطاعات والثغرات، الالتباسات والمفارقات، الطفرات والمفاجآت...

مثل هذه الرؤية تجعل الخطابات حول معنى العالم ونظامه وسيره، مجرد حكايات هي تأويلات لا تنفك تخضع للتأويل، أو صيغ عقلانية يجري دوماً تجاوزها نحو بناء صيغ أكثر اتساعاً وتركيباً، بقدر ما تتغذى من الصدف والفوضى والتحولات والثقوب الفارغة، مما يجعل الكلام على نظام واحد للكون ذي مبادئ ثابتة أو نهائية، مجرد سيناريو خرافي. إن الكون هو ما لا ينفك يحدث ويتشكل، ولذا فالأولى أن نفكر في نظام كوني هو قيد التشكل والتحول، توسعاً أو ضموراً. من غير ذلك نخضع لانتقام الوقائع، أو لحيل التاريخ كما يقولون.

لنعترف، ثمة عطل أساسي مصدره الحياة نفسها، بما تنطوي عليه من اللبس والازدواج أو التوتر والتعارض أو النقض والنفاد. وهذا ليس مجرّد انحراف خلقي أو قصور معرفي أو خبث سياسي، بقدر ما هو تجسيد لمأزق وجودي أو لهوة كيانية، كما يتجسم ذلك في الآليات والنزعات، التي تشتغل من وراء أو من تحت ما نعيه ونفكر فيه أو ما ننطلق به ونسعى إليه. هذه الهوة الأنطولوجية هي التي تجعلنا نفاجأ بنتائج أعمالنا ومن حيث لا نحتسب، بقدر ما نكتشف ما ننجر إليه من التورّط والتواطؤ أو نقع فيه من الأفخاخ والكمائن.

إلى أين يقودنا هذا الجلْد للذات البشرية؟ القضية هي ألا نموّه المشكلة، لأن مشكلة الإنسان هي مع نفسه بالدرجة الأولى. هذا معنى النقد الوجودي، بما هو محاولة لفهم ما نحن عليه، أي لما نطمسه ونستتر عليه، أو لما نجهله ونتناساه، أو لما نتورط فيه ونتواطأ ضده، أو لما نولده من المفارقات والتناقضات، أو لما نرتكبه من الفضائح أو نحصده من الكوارث.

ولكن للمسألة وجهاً آخر؛ فإذا كانت أعمالنا تفاجئنا سلباً بسبب ما نسميه الهوة الأنطولوجية التي تسم بنية الكائن، فالعكس أيضاً صحيح. بمعنى أن هذه الهوة هي منبع الإمكان ومصدر القوة، بقدر ما تشكل الفاصل الذي يقيمه المرء بينه وبين ذاته، أي مساحة اللعب التي تتيح لنا أن نتعامل مع معطيات وجودنا، وأن نشتغل على وقائع حياتنا بلغة الفهم الخارق والتخيّل الخلاق، كما يتجلّى ذلك مآثر ومنجزات.

في أي حال، قدر الإنسان أن يواجه نفسه لمحاربة الطاغية أو المفسد أو المخرب، بالمراس النقدي الدائم.

 

Email