التدويل والتقسيم يحيطان بمصر.. فماذا تنتظر قياداتها؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

سؤال يكرّره العرب اليوم: أين مصر ممّا يحدث الآن في بلاد العرب؟ وهل صحيح أنّ أوضاع مصر الداخلية هي العامل المانع لتحرّكٍ مصريٍّ منشود، يوقف تدحرج المنطقة نحو هاوية التدويل أو التقسيم أو الاثنين معاً؟!

الانتفاضات الشعبية العربية لم تنتظر نضوج الأمور الداخلية في مصر حتى تبدأ حركتها، كذلك هي القوى الإقليمية والدولية التي سبقت أصلاً هذه الانتفاضات، بوضع مشاريع وخطط تضمن مصالحها في المنطقة العربية كيفما كان اتجاه رياح التغيير فيها. آمال العرب هي على مصر، لأنّ مصر هي القوّة العربية الأساس في كلّ مواجهة خاضتها الأمَّة العربية على مرِّ التاريخ، ولأنّ المنطقة كانت تخضع دائماً لتأثيرات الدور المصري إيجاباً كان أم سلباً. لكن التاريخ يؤكّد أيضاً أنّ أمن مصر هو من أمن العرب، وأن استقرارها وتقدّمها مرهونان أيضاً بما يحدث في جوارها العربي.

الآن نجد مصر محاطة بواقع تدويلي ـ تقسيمي، في حدودها الجنوبية مع السودان وفي حدودها الغربية مع ليبيا، وهذا الواقع مرشَّح لمزيدٍ من التدهور والتأثير المباشر على أمن مصر وأوضاعها الداخلية. كذلك هي المخاطر المحدقة في الحدود الشرقية الجنوبية لمصر على باب البحر الأحمر، حيث هاجس الحرب الأهلية في اليمن. أمّا على الطرف الشرقي ـ الشمالي، فمصر مهدّدة أيضاً باحتمالات الفلتان الأمني والسياسي الممكن حدوثه في الشرق العربي، نتيجة تفاعلٍ حاصلٍ الآن بين أوضاع داخلية وأشكال مختلفة من التدخّل الإقليمي والدولي السافر، في العراق وسوريا ولبنان. هذا كلّه في ظلّ حضور حكومة نتانياهو وما هي عليه من مواقف سياسية ومشاريع تقسيمية للمنطقة، ومن فيها من مسؤولين دعوا أيام حكم حسني مبارك علناً إلى ضرب مصر، فكيف يفكّرون الآن بعد ثورة يناير فيها؟!

ألم تنقل صحيفة "الشروق" المصرية في عددها يوم 4/6/2011 عن الجيش المصري تحذيره من مخطّط لتقسيم مصر إلى ثلاث دويلات! وبأن "القوات المسلحة لديها وثائق تشير إلى مؤامرة تحيكها أطراف داخلية وخارجية لتفتيت مصر إلى ثلاث دويلات، وطرد الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وتقسيم الدول العربية على غرار ما حدث في السودان"!

ماذا تنتظر القيادات المصرية للتحرّك عربياً الآن، وليس التعامل اليومي فقط مع تداعيات الشأن الداخلي المصري؟!

فلا صحّة إطلاقاً للقول بأنّ القوات المسلحة المصرية مشغولة في أمور داخلية، ولا تستطيع التحرّك في جبهات أخرى. فهناك فرقة عسكرية مصرية واحدة معنيّة بهذا الوضع الداخلي، بينما الجيش المصري هو من الجيوش العشرة الأولى في العالم، وهو قادرٌ على التحرّك غرباً وجنوباً وشرقاً، إضافةً إلى دوره الداخلي، لو توفّر القرار السياسي لذلك.

لقد كانت ثورة 23 يوليو 1952 في مصر نموذجاً رائداً لحركات التحرّر الوطني في العالم، وللتغيير الاجتماعي والسياسي الذي تأثرت به المنطقة العربية عموماً، وترك آثاراً هامّة على شعوب إفريقيا وأميركا اللاتينية، وعلى معظم دول "العالم الثالث" التي كانت تعيش ظروفاً مشابهة لأوضاع البلاد العربية. ولم يحدث هذا الاهتمام العربي والتأثّر الدولي بثورة 23 يوليو لمجرّد قيامها في العام 1952، لكنّه حدث من خلال قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، ومواجهة العدوان الثلاثي: البريطاني، الفرنسي، والإسرائيلي على مصر عام 1956. فهذه كانت معركة الإرادة الوطنية ضدّ الهيمنة الأجنبية، ومعركة التحرّر من الاستعمار والاحتلال، وتلك آنذاك كانت قضيّة دول "العالم الثالث" كلّه، كما هي الآن "المسألة الديمقراطية".

كذلك كان تجاوب الشعوب العربية مع قيادة ثورة 23 يوليو، حينما أطلق قائد الثورة جمال عبد الناصر الدعوات لتضامن الأمّة العربية ووحدة شعوبها، ولتصحيح واقع فرضه المستعمر لكي تسهل هيمنته على ثروات ومقدّرات الأمّة العربية وعلى موقعها الجغرافي الهام.

فقد أدرك جمال عبد الناصر دور مصر الريادي في التاريخ القديم والحديث، وأنّ مصر لا يمكن أن تعيش منعزلةً عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة في المشرق والمغرب، بينما مصر هي في موقع القلب، وأنّ أمن مصر وتقدّمها يرتبطان بالتطوّرات التي تحدث حولها.

ولو ظهر جمال عبد الناصر في غير مصر لما استطاع أن يكون عظيماً بدوره، ولما كانت تجربته بالقيمة نفسها. فالعنصر الأهم في قيمة تجربة ناصر هو مكانها، أي مصر، وبما هي عليه مصر من موقع جغرافي يربط آسيا بإفريقيا، وشرق العرب بمغربهم، ولِما كان ـ ولا يزال - لهذا الموقع من أهمّية استراتيجية لكلّ من أراد الهيمنة على عموم المنطقة.

وصحيح أن ثورة 23 يوليو كانت "مصرية" المنطلق، كما هي ثورة يناير الآن، لكنّها كانت "عربية" في قضاياها ومعاركها وآثارها السياسية والفكرية والاجتماعية، وهذا بحدّ ذاته كان كافياً لانشداد كلّ العرب إلى ما يحدث في مصر ماضياً وحاضراً. فالاختلال في توازن مصر ودورها، يعني اختلالاً في توازن الأمّة العربية كلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد زيارة السادات لإسرائيل ثم توقيع معاهدات "كامب ديفيد" في العام 1979.

وحينما ثار شباب مصر لتغيير أوضاع دستورية واجتماعية مصرية، كانوا أيضاً يجسّدون بذلك أملاً كبيراً لكلِّ العرب بتغيير واقعهم أيضاً، واقعهم الداخلي وواقع أمّتهم كلّها.

إنّ أهمّية ما حدث في ثورة يناير المصرية، هو إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان التغيير، وبعدم الاستسلام لليأس القاتل لإرادة وأحلام الشعوب بمستقبل أفضل.

لكن الأمَّة العربية ما زالت تعاني من انعدام التضامن العربي والانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي وغياب الديمقراطية السياسية، ممّا يسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها، ويدفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيدٍ من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.

الأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سياسات حكّامٍ فاسدين، في ظل اشتعال دور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين، العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلد عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية.

إنّ مصر معنيّة الآن بشكلٍ كامل بكلّ ما يحدث في المنطقة، والأمن القومي المصري والعربي يتطلّب الآن تحرّكاً سريعاً وجادّاً من المجلس العسكري الذي يقود مصر حالياً، فمصر هي الآن بين بلدين عربيين يشهدان مخاطر داخلية كبيرة (السودان وليبيا)، وها هما الآن يتّجهان نحو هاوية التقسيم والتدويل، ممّا يشكّل بالتالي مخاطر كبيرة، على الأمن الوطني المصري.

طبعاً، المراهنة الأولى والأخيرة يجب أن تكون على شعب كل بلد عربي لإحداث التغيير السليم في الأوطان، ممّا يُحمّل "القوى المعارضة" مسؤوليةً كبيرة في الحرص على هدف وحدة الشعب ووحدة الأرض، وعروبة البلد واستقلاليته الوطنية، ورفض الانجرار إلى مشاريع الهيمنة الدولية والإقليمية.

وبمقدار ما تألّم العرب سابقاً من وجع سياسات ما بعد توقيع المعاهدة مع إسرائيل، ومن تهميشٍ لدور مصر العربي، بقدر ما يشدّهم الأمل اليوم بعودة مصر إلى دورها الريادي، لصالح مصر وكلّ العرب.

 

Email