حكمـة ملـك

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أكثر الأمور التي شدت انتباه المتابعين للأحداث الدائرة في المنطقة العربية منذ مطلع العام هو التناقض الواضح في كيفية التعامل مع الأحداث بين الأنظمة الملكية في العالم العربي والأنظمة الغير ملكية.

 

فبينما كانت الحكمة هي السمة الأبرز السائدة في تعامل الملوك العرب مع الأحداث من خلال إتباع دبلوماسية الإصلاح، اتبعت بعض الأنظمة الغير ملكية دبلوماسية العقاب واستخدام الآلة العسكرية ضد شعوبها، مدللة بذلك على أنها أنظمة لا تتمتع بالحكمة.

 

فجميع الملوك والسلاطين العرب الذين شهدت أوطانهم مطالب بالإصلاح أخذوا خيار الإصلاح والتطوير الجدي والسماع لنبض الشارع، ولم يجعلوا خيار البطش والتنكيل والقوة والمراوغة وسيلتهم في التعامل مع شعوبهم، وكانت النتيجة استعادة الهدوء والاستقرار لبيتهم الداخلي. إنها الحكمة التي دائماً ما تتجسد في فكر الملوك.

 

ولعلنا نقف هنا في هذه المقالة عند حكمة العاهل المغربي الملك محمد السادس الذي جسد في خطابه لشعبه في السابع عشر من يونيو المنصرم عملاً منقطع النظير في العالم العربي، حيث قدم لشعبه ولمنطقته العربية لبنة غير مسبوقة في تكريس بناء صرح دولة حديثة قوامها احترام حق الشعب في المشاركة في إدارة شؤون حياته بنفسه.

 

لم تكن المملكة المغربية بمعزل عن تأثير الثورات الشبابية التي اندلعت في بعض الدول العربية وأدت إلى الإطاحة بنظامين سياسيين وتزايد الضغوط على ثلاثة أنظمة أخرى، بل شهدت المملكة أيضاً مظاهرات واحتجاجات شبابية تطالب بالإصلاح .

 

لكن الرد على تلك المطالب جاء بحكمة عبر عنها الملك المغربي عندما أعلن عن مشروع دستور جديد يشمل إدخال إصلاحات سياسية واسعة على نظام الحكم في البلاد، شاركت في إعداده جميع القوى السياسية والمدنية من جمعيات نقابية وحزبية وشبابية وثقافية، وهو المشروع الذي يعرض هذه الأيام على الشعب المغربي للاستفتاء العام.

 

هذه الخطوة التي وصلت إلى مرحلتها الأخيرة بالاستئناس برأي الشعب المغربي بها تمنح البرلمان صلاحيات تشريعية واسعة تجعله لا يقل عن البرلمانات في الدول المتقدمة ديمقراطية، وتقلل من صلاحيات الملك التشريعية .

 

وتعتمد مبدأ الفصل الفعلي بين السلطات، وتعطي رئيس مجلس الوزراء ــ المنتخب من الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان ــ صلاحيات أوسع، وتضمن استقلالية للقضاء، وتحمي الطابع التعددي في المغرب، وتحترم حقوق الأقليات، وتفتح مجالاً أكبر للامركزية في حكم البلاد.

 

هذه الحكمة التي جاء بها العاهل المغربي قابلها الشعب بارتياح شديد، حيث خرج الشعب مؤيداً لها إيماناً بقناعة الشعب المغربي في نية ملكهم الصادقة في الإصلاح، وهي الحكمة التي من المتوقع أن تأتي نتيجة الاستفتاء الشعبي داعمةً لها. إن الشعب المغربي شعب واع ومنفتح .

 

وبالتالي ليس من المستغرب أن تخرج أصوات متحفظة تعتقد بأن برنامج الإصلاح المقدم لم يأت بالطريقة التي تأملها مثل تلك الفئة أو لم يكن كافياً، ولكن الظاهرة الأبرز هي في تعامل السلطة مع مثل تلك الأصوات والترحيب بها وبمواقفها من دون بطش وتعسف؛ وهو عكس ما قامت به الأنظمة الغير ملكية في العالم العربي والتي وضعت مصالحها فوق مصالح شعوبها واستعانت بأسلحتها الفتاكة لقصف شعبها الأعزل تحت حجج واهية.

 

هذا لم يحدث في المغرب ولم يحدث في الأردن ولم يحدث في عمان ولم يحدث حتى في البحرين التي كانت حذرة في التعامل مع الأوضاع هناك بحيث كان العقاب للمخربين المندسين بأجندات خارجية واضحة.

 

ولكن للأسف وجدنا أن ذلك يحدث بشكل واضح في دول أخرى. فمثل هذه الأنظمة الغير ملكية لا حكمة لها وللأسف الشديد، ولا تريد أن تتعلم أو تستفيد من الكيفية التي تتعامل من خلالها الأنظمة الملكية مع مطالب شعوبها.

 

إن العاهل المغربي يعطي المثال الأبرز على قدرة ألأنظمة الملكية على التكيف مع الظروف بحكمة كبيرة تماماً كما فعل سلطان عمان عندما أعلن عن حزمة إصلاحات وتعديلات داخلية تمثلت في إصلاحات اقتصادية وأخرى سياسية، وبتشكيل لجنة من أعضاء مجلس الشورى لدراسة رفع الصلاحيات التشريعية الممنوحة لمجلس الشورى المنتخب، والتي قابلها الشعب العماني بترحيب واسع عبر عن عمق العلاقة القائمة بين الشعب وسلطانه.

 

وكما فعل العاهل الأردني الذي وعد شعبه بحزمة من الإصلاحات السياسية في خطابه الأخير بمناسبة توليه العرش، والذي أكد فيه رغبته في جعل البرلمان يتمتع بتمثيل حزبي فاعل يقود إلى نظام يتم تشكيل الحكومات الأردنية من خلاله على أساس الأغلبية النيابية الحزبية.

 

وكما فعل ملك البحرين الذي لم يثنيه صوت الحزم ــ الذي كان مطلوباً لاستعادة أمن الدولة من الأخطار التي كادت أن تودي بأمن واستقرار المملكة ــ عن رفع حالة الطوارئ في البلاد أو ما يسمى في البحرين بحالة السلامة الوطنية، والجلوس مع المعارضة ومحاورتهم .

 

فيما يصبون إلى تحقيقه من إصلاحات داخلية عبر حوار وطني يبقي على قوة اللحمة الوطنية التي حاولت بعض الأطراف الإضرار بها خلال أحداث الشغب التي عاشتها المملكة، والسماح للمعارضة بالتظاهر السلمي.

 

إنها حكمة الملوك التي تفتقر إليها وللأسف الشديد الأنظمة الغير ملكية في عالمنا العربي، والتي نأمل أن تكون نتائج هذه الحكمة، التي سيترجمها واقع الأحداث في كل من المغرب وعمان والأردن والبحرين، نموذجاً يضيء الطريق لغيرهم من أنظمة غير ملكية.

Email