الثورات العربية ووأد الخوف

ت + ت - الحجم الطبيعي

ووأد الخوف تمر الثورات العربية الراهنة بثلاث مراحل أساسية؛ أولاها مرحلة الجماهير العفوية، والثانية المرحلة الانتقالية، وثالثتها المرحلة البنائية التي تؤسس لمجتمع جديد.

 

في المرحلة الأولى تسود ثقافة الحشود الجماهيرية العفوية، بغض النظر عن نوع المشاركين في الثورات. كما تسود بالتالي حالة التخلص من الخوف الذي ظل سائدا لعقود طويلة من السلطات الحاكمة الغاشمة، لكنه تخلص مرتبط بثقافة الحشد الجمعي، وما تطلقه الثورات من قدرات وقتية ولحظية. وتتسم هذه المرحلة بعفوية شديدة، مختلطة بتأثيرات نخبوية من هنا ومن هناك.

 

بمعنى آخر؛ فإن التوجهه الأيديولوجي لهذه الثورات لم يكن واضحا بشكل كبير، بقدر ما كان يدفعه إحساس عام بالرغبة في التخلص مما هو موجود، وبشكل خاص حالة الإفساد المستشرية.

 

أهمية هذه المرحلة أنها الشرارة التي لم يكن يحلم بها أحد أو يتصورها في أكثر السيناريوهات تفاؤلا، فما حدث بشكل عفوي شبه موجه، كان أكبر من كافة التوقعات الخاصة بالمنطقة .

 

وبشكل خاص المساهمين في العمل السياسي والحزبي. فالجمود والركود الجاثمان على المنطقة وهيمنة حالة التخلف العربية، قد أدت بالكثيرين إلى تصور موت العالم العربي ونهاية أسطورة الشعوب القادرة على التغيير.

 

بالنسبة للمرحلة الانتقالية، وهي المرحلة الراهنة التي تمر بها الثورات العربية، وبشكل خاص في كل من مصر وتونس، فإنها تمثل التحدي الأكبر بالنسبة لهذه الثورات. فهذه المرحلة هي مرحلة المراجعات لكل شيء، .

 

كما أنها مرحلة التلاطم السياسي والظهور العنقودي للكثير من التيارات السياسية المختلفة، بما فيها تلك التي ظلت كامنة لعقود طويلة من الزمن، مثل الحركات الجهادية والسلفية. يغلب على هذه المرحلة الهدوء النسبي والصعود المتزايد للمطالب الفئوية، كما تغلب عليها أيضا محاولات متكررة من قبل فلول النظم البائدة، لنشر حالة من الفوضى بغية العودة لما كان عليه الحال السابق.

 

وترتبط هذه المرحلة بخوف غير محدد، يمكن أن نطلق عليه "الخوف من المجهول". فمن سمات هذه المرحلة وجود الضبابية المرتبطة بها، وبشكل خاص في ضوء عدم وجود قيادات متبلورة لهذه الثورات، وعدم وجود شخصيات كاريزمية لافتة للنظر، تجمع حولها كل هذا الشتات المتناثر من القوى المختلفة.

 

إن هذا الخوف من المجهول يخلق حالة من رفض الثورة لدى البعض، على الرغم من إيمانهم بها، وربما مشاركتهم في أحداثها.

 

كما أنه يخلق الكثير من المقارنات بين الوضع الحالي وما كانت عليه الأوضاع في السابق، رغم سوء الأحوال في الماضي ورغم معرفة الجميع لذلك. إن الانتقال من حالة الحشد الجمعي الثوري إلى المرحلة الانتقالية، يعود بالأفراد والجماعات الثورية إلى حالتها الأولى الباردة، إن لم يرتبط ذلك بمواصلة الزخم الثوري، سواء عن طريق رعاية المطالب الشعبية أو عن طريق الانتقال السريع لمرحلة البناء والتعمير الكاملين.

 

لم تشهد مصر أو تونس حتى الآن أية بوادر تؤشر على تجاوز للمرحلة الانتقالية، والتحول لمرحلة البناء والتغيير الشاملين، وأغلب الظن أن تلك المرحلة سوف تحتاج لوقت طويل من العمل الجاد والمتواصل.

 

لكن الأهم هنا، هو تواصل عدم الخوف الذي بدأته الحشود الثورية المتدفقة على ميادين مصر وتونس، تجاه القوى المعادية للثورة التي قادت هذين المجتمعين لمدد تجاوزت العقود الثلاثة.

 

إن تجاوز حالة الخوف، يجب أن يتحول أيضا من الحالة الحشدية الانفلاتية ليتخذ مسارات جديدة، من خلال المؤسسات السياسية الصاعدة وعلى رأسها الأحزاب.

 

وتنبع أهمية مأسسة هذه الحالة، من كونها سوف تصبح الرقيب العام على كافة تحركات القوى المعادية للثورة، بما فيها تلك القوى التي احتكرت الأمن وصادرت حريات المواطنين لسنوات طويلة ومتعاقبة.

 

وفي هذا السياق سوف يكون للأحزاب الجديدة ومؤسسات المجتمع المدني دور كبير، يتمثل في البدء في التعليم السياسي لحقوق المواطنين، وكيفية الدفاع عن أنفسهم تجاه أية مصادرات قد يواجهونها في المراحل الانتقالية للثورة.

 

من هنا فإن على هذه الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، أدوارا كبيرة تتجاوز ذلك الصراع السياسي الحالي، إلى الرؤية المستقبلية التي ترتكز على جهود المواطنين وقدراتهم الشاملة على مواجهة أي قوى معادية أو أي محاولات جديدة للإفساد المالي والسياسي.

 

لقد قدمت الثورتان التونسية والمصرية حالة جديدة وغير مسبوقة من كسر حواجز الخوف لدى المواطن، وإيمانه بنفسه وبقدراته على مواصلة التغيير، لكن تلك الحالة تحتاج للمزيد من الجهد والعمل في الفترات القادمة، من أجل صيانة الثورة وتوفير أجواء ملائمة لا تعرف للخوف سبيلا، ولا تتراجع أمام أي سلطة كائنة ما كانت.

Email