مَنْ يُصلح مَن؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحرّر المرأة أم الرجل؟

أعود مجدداً إلى إشكالية السلطة والحرية، في ما يخص وجهاً من وجوهها: العلاقة بين الرجال والنساء.

ولنقرأ ما حصل في فرنسا، مؤخراً، أعني الفضيحة الجنسية التي كان ضحيتها، بل بطلها، السياسي البارز والخبير المالي العالمي دومينيك ستروس - كان، الذي اتهم بالاعتداء على عاملة تنظيف في أحد فنادق مدينة نيويورك، حيث كان يعمل مديراً عاماً لصندوق النقد الدولي.

هذه الفضيحة، التي أحدثت هزّة في المجتمع الفرنسي، شكّلت مناسبة لفتح ملف التحرّش وإعادة طرح وضعية المرأة من أساسها، للمناقشة العمومية. وهكذا، ما كان خفياً ومستوراً أعلن على الملأ وصار مادة دسمة وشيّقة في وسائل الإعلام. كرّت السبحة، بعد هذه الحادثة، وتوالت الاتهامات لشخصيات في الوسط السياسي، فسقط ـ بعد ستروس-كان ـ وزير في الحكومة الفرنسية، اضطُرّ إلى تقديم استقالته، بعد أن اتهم بالتهمة إياها: التحرّش والاعتداء الجنسي.

واللافت في الأمر أن فرنسا، التي هي رائدة في قضايا التحرير والتنوير، مجتمع يتستّر على فضائحه الجنسية، إذ تبيّن أن هناك عشرات الألوف من النساء اللواتي يتعرّضن للتحرّش كل عام، ولكنهن كنّ يؤثرن الصمت، إما مخافة الفضيحة، أو خشية أن يخسرن وظائفهن إنْ تقدّمن بشكوى ضد الأقوياء أو الأغنياء من الرجال ذوي النفوذ والثروة، كما جاء في التحقيق الذي أجرته مجلة «ماريان» حول المسألة.

يُضاف إلى العنف الجنسي المُستَشري، العنف الجسدي الذي هو أيضاً متفاقم، إذ النساء اللواتي يتعرّضن للقتل على أيدي أزواجهن أو شركائهن، هنّ بأعداد كبيرة، كما تشهد الإحصاءات كل عام.

وهكذا، فبعد كل هذه الثورات والحركات التحرّرية، من الموجة الأولى التي كانت رمزها الكاتبة سيمون دوبوفوار، صاحبة جان-بول سارتر، إلى ثورة الطلاب عام 1968 وكان أحد شعاراتها تحرير المخيلة، وصولاً إلى الحركات النسوية الراهنة التي تمتاز بالجرأة الفائقة، تبدو فرنسا بلد السيطرة الذكورية وممارسة العنف ضد النساء اللواتي يعاملن، من جانب الرجل، بوصفهن بشراً من الدرجة الثانية. فرغم المساواة التي تنصّ عليها القوانين، ما زال الامتياز للرجل الذي لا يُعامل المرأة بوصفها ندّة أو مساوية، في المكانة أو الوظيفة أو الشراكة أو العلاوة.

ومن الفضائح في هذا الخصوص، أن سيغولين رويال عندما أعلنت عزمها على الترشّح لرئاسة فرنسا عام 2007، قال لها منافسوها داخل الحزب الاشتراكي؛ إذا ترشّحت من يتولى الاهتمام بأبنائك؟! وكانت أديت كريسون، التي عنيت أول رئيسة للوزراء في عهد فرنسوا ميتران (1981-1995)، قد اتهمت بأن تعيينها لم يكن لكفاءتها، بل لقربها من رئيس الجمهورية.

هذا الوضع المعيب والفاضح، حمل نائبة فرنسية في البرلمان الأوروبي على القول: من المرعب أن فرنسا ما زالت، في العام 2011، تشهد تصرّفات «بائدة» من حيث التعامل مع المرأة. إن التأمل في هذه الوقائع، يظهر أنه لا وجود لحلول نهائية أولفردايس تحررية.

فالمجتمع البشري لا ينفك ينتج آليات التفاوت والقهر والسيطرة، من وراء شعارات التحرر والتقدم والتمدّن. وفي ما يخص العلاقة بين الرجال والنساء، ليست المسألة تحرير المرأة من الرجل، فالرجل لا يريد تحرير المرأة ولا يقدر عليه.

المسألة هي تفكيك بنية العلاقة بين الاثنين، لتغيير نظرة كل واحد منهما إلى نفسه وإلى الآخر، بحيث ينكسر منطق الوِصاية والقَوَامة، ونكف عن النظر إلى المرأة بوصفها سلعة أو عورة. نعم هي مصدر غواية وفتنة ومتعة، والرجل هو كذلك بالنسبة للمرأة، وإن اختلفت الأساليب والوسائل.

مَن يصلح مَن؟

لم تتوقف، منذ سنوات، عن مطالبة الأنظمة السياسية العربية بتحقيق الإصلاح، سواء من جهة مثقفين ودعاة وهيئات مدنية، أو من جهة الحكومات الغربية والهيئات الدولية، وكان الكلّ يحثّون رؤساء الدول على إصلاح الأوضاع قبل فوات الأوان.

وبعد نجاح الثورة في تونس ومصر، بإسقاط النظام السياسي في كل من البلدين، تكرّرت المناشدات للزعماء في بقية الدول العربية، بأن يقدموا على إجراء إصلاحات واسعة أو جذرية، اتقاء للعواصف والمتغيرات المتسارعة.. طبعاً لم يكن ينتظر من الرئيس الليبي أن يقدم على الإصلاح، إذ هو لا يعترف بوجود مشكلة في بلده، لأنه يعتبر أن ليبيا تعيش في عهده في جنّة الفردوس. كان المقصود بالمطالبة، اليمن أو سوريا، حيث يُعترف بالحاجة إلى الإصلاح من جانب القادة. ولكن لم تحصل إصلاحات جدّية ومقنعة، تحدث تحولاً في بنية النظام القابض على المجتمع والمهيمن على المقدرات.

ما حصل هو العكس: الالتفاف على المشكلة، أو تقديم الحل الأمني على الحلّ السياسي، باستخدام مفرط للقوة والعنف، مما يعني أن الأنظمة القائمة غير قادرة على الإصلاح وفقاً لمبادئ الحرية والشفافية والعدالة، أو لقواعد التعدد والشراكة وقبول الرأي الآخر. وعلّة ذلك أن هذه الأنظمة، منذ تأسست وتشكّلت، إنما تعمل بمنطق معاكس. ولذا فقد تفنّن القائمون بها في ابتكار وتطوير واستخدام مؤسسات التطويع والتدجين، أو آليات التخويف والترهيب، أو استراتيجيات الاتهام والإقصاء، أو ممارسات الخطف والقتل والتعذيب كما في الحالات القصوى.

ولا عجب في ذلك، فعلّة وجود معظم هذه الأنظمة وقيامها، هي تكميم الأفواه ومصادرة الحريات وتطويع الأجساد والختم على العقول، أي الخوف القاتل من كل رأي معارض ولو كان مجرّد همس.. وهكذا أقيمت حكومات هي أشبه بدول أو دويلات، عطلت الدستور والقوانين وحوّلت الشعارات الوطنية والمؤسسات العامة والأطر الحديثة من صُحُفٍ ونقابات وأحزاب، إلى مجرّد واجهة تقف وراءها سلطة مطلقة تمارس لمصلحة أسرة أو جماعة أو حزب واحد، تحت عباءة زعيم أوحد يختزل مجتمعه ويُنسَب إليه بلده، لكي يتصرّف فيه كما يشاء.

ولذا من السذاجة أو الخداع أو النفاق، عند مَنْ يتأمّل المعطيات ويقرأ المجريات، أن يطلب من الأنظمة القائمة أو يقترح عليها خططاً في الإصلاح والتغيير، على ما يفعل رؤساء دول ومثقفون كبار في مناشداتهم ورسائلهم المفتوحة أو المغلقة، لأن هذه الأنظمة لا تنتج إلاّ ما تشكو منه المجتمعات العربية من الآفات.

ولا أنسى الوجه الآخر للمسألة وهو أن المثقفين الذين يقترحون أفكاراً للإصلاح على الرؤساء، فقدوا مصداقيتهم ولم يعودوا يملكون مفاتيح التغيير والتحديث، لأن مفاهيمهم للحرّية والإنسانية والديمقراطية، قد استُهلكت ولا تعطي سوى مردودها العكسي، فلا يُعقل أن نتصدّر واجهة المشاريع الحضارية طوال عقود، لكي نصل إلى هذه المآزق والكوارث.. من هنا السؤال: مَنْ يصلح مَن؟

Email