السودان.. خيارات العنف

ت + ت - الحجم الطبيعي

تواترت الأنباء من السودان خلال فترة قصيرة، تخبر العالم عن قتال ونزوح جديدين في البلد الذي يبدو وكأنه يرفض السلام والاستقرار، بينما العالم ينتظر قرب نهاية اتفاقية السلام الشامل دون عدائيات، رغم النتيجة الصعبة التي انتهت إليها: الانفصال. فهل الحرب في السودان أسهل من السلام والاستقرار؟ هل يخشى النظام استحقاقات السلام (وقد كتبت من قبل عن العيش بالأزمات)؟

لقد تم تجييش البلاد بصورة خطيرة ومبالغ فيها، ويظهر ذلك في الصرف غير المحدود على ما يسمى القوات النظامية. وعندما نقارن في الميزانية نسبة الصرف على التعليم والصحة بنسبة الصرف على الجيش والأمن، نجد الفرق شاسعا، وهذا يفصح عن الأولويات الحقيقية.

ولا يقتصر الأمر على النواحي الاقتصادية، ولكن مجمل الحياة العامة يظهر فيها الاهتمام الكبير بكل ما له صلة بالعسكرة. ويبدأ ذلك بالزي المدرسي للطالبات، والذي يشابه لباس جنود الصاعقة، يضاف إلى ذلك العديد من المؤسسات والمنظمات والشركات. ورغم حل مجلس قيادة الثورة، إلا أن اثنين متبقيين يقومان بالمهام الصعبة. وما زال الرئيس البشير حين يريد إعلان قرارات خطيرة ومخاطبة الجماهير يرتدي زي المارشالية. فقد أصبح هذا الزي رمزا للجدية والخطورة.

كان السوداني يرتاح إلى شخصية نمطية تصنفه كإنسان مسالم، رغم استمرار الحرب الأهلية على أراضيه لأكثر من نصف قرن. كما أن تاريخه الأقدم عرف النزاعات المستمرة بين القبائل، وعرف ظاهرة «القيمان»، أي النهب والسلب المتبادل بين القبائل.

وقد اشتهرت هذه الشخصية لأن بعض سودانيي فئات اجتماعية معينة، نجحوا في تقديمها للخارج. وهذه ليست الشخصية السودانية الأساسية، ولكنها جماع لشخصية سكان المدن وبعض المناطق الزراعية المستقرة وفئة الموظفين والتجار والمغتربين المثاليين والمبعوثين الجادين. فالعدوانية أو العنف كامنان بين الفئات الفقيرة والمقهورة والمناطق الهامشية، ولذلك لم تتردد في حمل السلاح حين سنحت الفرصة.

وفي ثمانينيات القرن الماضي وجد السودانيون أنفسهم مصنفين كمواطنين ينتمون إلى دولة «راعية للإرهاب»، وينسحب هذا الوصف ـ قانونيا ـ على كل من يحمل جنسية هذه الدولة. وأصبح السوداني المسالم متهما، وصار جواز السفر الذي يحمله شبهة تجره إلى عذاب، إذا حاول الحصول على تأشيرة دخول، والبلدان التي كانت تصدر التأشيرة للسوداني في الحدود أو المطارات، صار تنتظر لأسابيع. ووقعت العقوبات على المواطنين العاديين، وليس على النظام.

وحتي النظام نفسة تراجع عن التهويش وعن تمثيل دور الإرهابي بقصد الابتزاز، وعمل النظام خلال السنوات الأخيرة كل جهده مع الولايات المتحدة الأميركية، لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولكن الأميركان يتمنعون حتى يركع النظام السوداني تماما ويمنحهم ما يريدون. وهذه بدورها علاقة شديدة الالتباس، ورغم أن البعض يحاول أن يختصرها في سياسة «العصا والجزرة»، إلا أنها لا تنطبق عليها.

فقد قام السودان بخطوات كان يستحق على ضوئها أن يذوق طعم الجزرة، وعلى رأسها إنفاذ اتفاقية السلام الشامل حتى الخطوات الحالية. وحين ظن النظام أنه نجح في تحقيق إنجاز مهم، قفز الأميركيون على مشكلة الجنوب، وشرعوا في الحديث عن دارفور. وهنا يتصرف النظام بعصبية ويدخل في حماقات تبرر الموقف الأميركي المتعنت، كما حدث أخيرا في أبيي وجنوب كردفان. وبالتالي يجد التوتر وتدهور العلاقات مبرره، ونقفز إلى مرحلة أخرى مختلفة.

تسببت سياسة النظام الداخلية، بعيدا عما يقدمه على المسرح العالمي، في تغييرات طالت قطاعات من السودانيين، ضمن مشروع إعادة صياغة الإنسان السوداني المعلنة. فقد تنازل أو تراجع كثير عن السودانيين من صفات التسامح والمجاملة، لحساب قيم جديدة خاطئة. فقد استهل النظام الحالي عهده بإعلان الجهاد ضد الجنوبيين، وخلط الشعارات الدينية والقبلية والذكورية، لإثارة الحماسة والنخوة بين الشباب، حسب تصور النظام الأيديولوجي! وأخذت صناعة الموت موقعا مركزيا في عقل ووجدان الشباب.

وارتد الشباب إلى قيم جاهلية ـ للمفارقة ـ وليست إسلامية، فقد انتشرت قيم العنف والعدوانية، بسبب تفسير وفهم خاطئين للحديث الشريف: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف}. فهم أولا لا يوردون البقية: {.. وفي كل خير، أحرص على ما ينفعك واستعن بالله}. وهؤلاء المفسرون يخلطون ـ عمدا أو جهلا ـ بين القوة والعنف. فالقوة المعنية في الحديث هي قوة الإرادة وقوة الإيمان، بينما العنف هو في كثير من الأحيان إخفاء للخوف والضعف، من خلال المبادرة بالاعتداء على الآخر وغدره، منعا لعدوان قد يحصل عليه. وما نشاهده الآن هو عنف غير مبرر، لا يعكس صفات المؤمن القوي التي يقصدها النبي الكريم.

ومن المشكلات التي يعاني منها المجتمع السوداني الحالي، أن العنف قد تسرب إلى الثقافة السودانية، وإلى العلاقات الاجتماعية. وهنا لا أتحدث عن تزايد الجريمة كما ونوعا، رأسيا وأفقيا، أي طالت طبقات اجتماعية كانت بعيدة، ولكن عن العدوان الظاهر في اللغة كتابة ومخاطبة.

فقد أدخل بعض الصحافيين لغة الشتم والسب والتجريح إلى قاموس الصحافة السودانية، خلال حقبة الديمقراطية الثالثة 86-1989، وكان القصد إرهاب الخصوم والمخالفين، خاصة وأن السودانيين لم يتعودوا على هذه اللغة، لذلك صعقوا ولم يتصوروا وجود من يعتدي بهذه الطريقة. وقد ارتكز هؤلاء الصحافيون على حديث «المؤمن القوي».

وقد يقلل البعض من العنف اللغوي، ولكنه قوي التأثير لأنه يسقط الحاجز النفسي في الاعتداء واستخدام العنف. ومن يطالع الصحف السودانية في الفترة الاخيرة، سوف يبادر بالتساؤل: أين السوداني المهذب، المؤدب، عفيف اللسان الذي عرفناه؟ ويتكرر نفس الشيء في الانترنت والمجال الاسفيري، مع إمكانية الكتابة باسم مستعار. ومن أخطر الظواهر في علاقات الحوار، أن يغيب الاحترام والتوقير.

وهناك جانب تقليدي قديم، عاد ليغذي قيم العدوان والقتل والتخريب، فقد انتشرت ظاهرة ما يسمي بأغاني الحماسة، وهي أغانٍ كانت ترددها نساء القبيلة في الماضي، لكي يتقدم المحاربون بشجاعة للحرب، وتصف الشخص بأن سيفه يرتوي من دماء أعناق الرجال وبأنه يملأ سروج العدو بالدماء... الخ. وأغلب الأغاني التي تبث في المحطات الفضائية السودانية، هي ترديد لتراث القتل والعنف والدمار.. فقد عدنا مرة أخرى لتمجيد صناعة الموت.

وتقرع هذه الأيام طبول الحرب في الجنوب وجبال النوبة، ويدور الحديث عن التمشيط والتأديب، وتتحدث الدوائر العالمية عن القصف والنزوح. وأخشى أن يعود السودانيون إلى مربع الحرب الأهلية الأول. ولقد خبر السودانيون الحرب ويعلمون ماذا تعني.. هذه أيام تحتاج لكثير من الحكمة والعقل، وليس في الأمر شجاعة أو قوة أيا كان معناها. ويجب ألا تترك الساحة للأصوات العالية، التي اعتادت على التهييج والإثارة.

Email