ثلاثة مشاهد من رحم الثورة المصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تبرهن المشاهد الثلاثة التالية، على الصعوبات الهائلة التي تواجهها الثورة المصرية، كما أنها تبرهن على أن الثورة لا ترتبط فقط بتغيير النظام وإسقاطه وإطلاق الحريات الخاصة والعامة، رغم أهمية كل ذلك، لكنها ترتبط أيضا بإعادة تأهيل الشعب وتغيير عقليته. لا يعني ذلك أن الشعب فاقد للأهلية والعقل، بقدر ما يعني أن الشعب عبر عقود طويلة من الزمن، فقد القدرة على التفكير والعقلانية والتسامح؛ وفي كلمة فقد إنسانيته في خضم اللهاث اليومي والمتواصل وراء لقمة العيش، وبسبب الظلم من قبل الأنظمة المتعاقبة على حكمه.

يرتبط المشهد الأول بالمدرس المصري صاحب الحضانة، الذي ضبطه شريط يوتيوب وهو يضرب الأطفال ضربا مبرِّحا، لا يليق بأعمارهم ولا بأية مناهج تعليمية تقرها الدول والشرائع والعقائد المختلفة. ورغم شيوع عمليات ضرب الأطفال في المدارس في كافة الأقطار العربية، إلا أن ما استرعى الانتباه هنا، هو الدفاع المستميت لأهالي الأطفال عن الأستاذ، وتأكيدهم على أنه يقوم بدور كبير في تعليم أطفالهم، بل إن بعض النساء اللاتي تظاهرن من أجل الإفراج عنه، قد أكدن على أنهن يمارسن ضرب أولادهن بشكل يومي من أجل ضمان تعليمهم.

وإذا كان المشهد الأول يكشف بشكل واضح عن قبول الفقراء ومحدودي الدخل للعنف والدفاع عنه، حتى لو كان يُمارس على أبنائهم، فإن المشهد الثاني يكشف عن تعنت الليبراليين واليساريين العرب، وغياب التسامح لديهم في التعامل مع الآخر المشارك لهم في الوطن. ففي مشهد بالغ الغرابة، قامت الإعلامية المتميزة فريدة الشوباشي، بمهاجمة مضيفات مصر للطيران اللاتي يرغبن في ارتداء الحجاب أثناء العمل، في ظل قوانين لا تسمح لهم بذلك. لقد صالت الشوباشي وجالت من أجل رفض فكرة حجاب المضيفات، وتناولت التاريخ بدرجة مفتعلة من أجل التأكيد على أن النساء لم يكن يرتدين الحجاب قبل السبعينيات، وأن ارتداءه يمثل عملا طائفيا يمايز بين المسلمين والمسيحيين... إلخ، من التبريرات والتفسيرات التي تعدت قضية معينة ومحدودة ترتبط بالحريات الشخصية. لقد نسيت الشوباشي أو تناست، أن من أبسط حقوق الإنسان ارتداء ما يريد، طالما أن ذلك لا يمثل خروجا على العرف المجتمعي العام.

ويأتي المشهد الثالث ليكمل ما بدأته الشوباشي من خنق التسامح والانفتاح على العالم، والقبول بالرؤية الواسعة العميقة غير السطحية له، مع التأكيد على أهمية القضايا التي تحتاجها مصر الثورة الآن، وترك توافه الأمور في هذه المرحلة الخطيرة التي نواجهها جميعا.

ففي جلسة تم بثها عبر التليفزيون المصري في توقيت غريب ومثير للشبهات والتآمر في الوقت نفسه، عرض الشيخان علي جمعة وأسامة الأزهري والدكتور محمد عمارة، العلاقة بين العلمانية والإسلام بشكل انسجمت فيه توجهات الثلاثة، من دون وجود أي مفكر آخر من أصحاب الفكر المناوئ لهم، أو حتى المختلف معهم، من أجل إثراء الحوار وضمان موضوعيته، وعدم التغرير بالمشاهد البسيط الذي أزعم أنه لم يفهم أي شيء من تحليلات الضيوف الثلاثة. على أية حال، فرغم الجهد الذي بذله الثلاثة بالعودة إلى التاريخ الإسلامي وتناول الآيات القرآنية الشريفة، وذلك من أجل إثبات تخلف المجتمعات الغربية قيميا وأخلاقيا ودينيا، فإنهم لم يستطيعوا أن يقتربوا، ولو من بعيد، من واقع العالم الإسلامي الراهن المتخلف ماديا وقيميا. فقد بدت تحليلاتهم أقرب للتهويمات التي تدغدغ مشاعر المشاهد الساذج، من أجل البرهنة على تخلف الغرب ورقي المسلمين. اللافت للنظر هنا أنهم لم يتأسوا بالرسول العظيم في تقربه من الآخرين ودعوته بالحسنى لهم، وهو ما ساعد على القبول واسع المدى للإسلام والإيمان به.

إذا ما حاولنا أن نصل إلى المشتركات التي تربط بين هذه المشاهد الثلاثة، من خلال أبطالها: المدرس وأولياء أمور الأطفال، الإعلامية ومضيفات مصر للطيران، وأخيرا الشيوخ الثلاثة والغرب، فإننا أمام كارثة مجتمعية متجذرة، تتمثل في ممارسة العنف تجاه الآخر أيا كانت نوعيته.

في المشهد الأول؛ قبل المجتمع وتسامح مع عنف المدرس تجاه الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة، وفي المشهد الثاني تسامحت الإعلامية الشهيرة مع عنف المؤسسة المعنوي تجاه مضيفات مصر للطيران، وفي المشهد الثالث تسامح الشيوخ تجاه العنف غير المبرر الموجه للمجتمعات الغربية وضد الأفكار المرتبطة بها، كما أنهم استسهلوا تبسيط الأمور وتزييف الأفكار.

إن تنوع أشكال العنف التي نمارسها تجاه بعضنا البعض وتجاه أنفسنا، هي أخطر ما يواجه الثورة المصرية الآن، وهو أمر قد يؤدي في النهاية إلى اتساع دائرة العنف، من البلطجية المعروفين إلى كافة الجماعات والمؤسسات وأصحاب التوجهات الفكرية المختلفة.

 

Email