مظالم وظلمات.. من لبنان إلى اليمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

يأتي عيد «التحرير» في لبنان (25 مايو 2000)، والبلد أسوأ مما كان عليه قبل أحد عشر عاماً، أي عندما كان جزءٌ من أرضه تحت الاحتلال. يومها كان هناك إجماع على المقاومة، وفي السنوات الأولى التي تلت التحرير، كان العيد يحظى أيضاً بإجماع اللبنانيين الذين كانوا يشاركون في الاحتفاء به.

 

أما اليوم فقد تغيّر الوضع، وتقهقر لبنان إلى الوراء، إذ تنهشه الصراعات السياسية والطائفية، بقدر ما يختلف أهله حول المقاومة التي تثير الجدل والانقسام حول جدواها ومشروعيتها.

 

هذا ما حدث بعد أن استخدم السلاح في النزاعات الداخلية، الأمر الذي جعل فريقاً من اللبنانيين يطالب بنزعه أو وضعه تحت إمرة الدولة والجيش، لا سيما وأن الحاجة إليه قد انتفت بعد زوال الاحتلال.

 

بل هناك من يشكّك أصلاً، في مشروع المقاومة، حجته في ذلك أن السلاح بات هدفاً بحدّ ذاته، وأن المقاومة تتصرف بوصفها فوق الدولة والوطن وأولى من البلد والمجتمع

. مما يعني أن قيامها تحركه وتقف وراءه أهداف لا علاقة لها بالتحرير ومستلزماته، أو بالبلد واستقلاله.

 

بالطبع إن من ينتمي إلى وطن ويعيش على أرضه، إنما يمانع ويقاوم ويقاتل من أجل أن يستقل بلده إذا كان محتلاً، غايته من ذلك أن يحيا في بلده حياة حرّة، كريمة، لائقة، مدنية.. أما أن تقدس المقاومة لكي تتخذ ذريعة لتعليق القوانين وتعطيل الحياة المدنية السوية، .

 

أو أن تكون غطاء للتستر على ما يفتك بالمجتمع من آفات الهدر والنهب والفساد، أو للقبض على الأمر وإقامة نظام شمولي بوليسي، فهذا استبداد لا نظير له، عانى وما زال يعاني منه بعض البلدان العربية.

 

وهذا هو ما يراد للبنان: أن يبقى بلداً معلقاً على صليب الممانعة والمقاومة، لخدمة أجندات واستراتيجيات تلغم وحدته وتهدّد أمنه ومصالحه، بحجة الدفاع عنه.

 

وفي ذلك استضعاف وقهر وظلم، بل هو ظلام يخيم في عصر الشفافية والصورة، لأن كل ما يقال ويعلن، هو غير ما يخطط له في سراديب العقول وكواليس السياسات. وهذا ما يفسر كيف أن التحرير يتحول من أعياد وأفراح، إلى ألغام ومآزق وحروب أهلية.

 

وفي عهد الإمامة، في اليمن، كانت الدنيا تنقسم إلى قسمين: هناك من جهة أولى اليمن الذي كان يعيش، في عالمه المغلق، عزلته وتخلفه وتحجره. وهناك من جهة أخرى، العالم وما يشهده من المتغيرات والتحولات على مختلف الصعد والمستويات.

 

ثم أتت الثورة، بنموذجها الانقلابي العسكري، لكي تعد اليمنيين بتحريرهم من الظلم والقهر والفقر.. وبعد فترة من الاضطرابات والتقلبات، آل الحكم إلى الرئيس الحالي علي عبدالله صالح الذي قبض على الأمر، منذ ثلاثة عقود ونيف، فانتقلت اليمن من آل حميد الدين إلى آل صالح، ولكن بعد أن تمّ انتهاك مبادئ الجمهورية، والانقلاب على كل الشعارات الثورية، لا سيما في مسألة الحريات.

 

وكانت الحصيلة أن ثورة العسكر قد لاقت نفس المصير البائس الذي آلت إليه شقيقاتها العربيات، حيث تمّ احتكار السلطة من جانب حزب أو جماعة أو أسرة، في ظل حاكم مستبد يتعامل مع شعبه، على مقتضى التأله، شعاره: أنا أو لا أحد.

 

وترجمة ذلك أن يتصرّف هذا الحاكم في بلده، وكأنه ملكه الخاص، فيقرّب ويكافئ ويعلي من يشاء، أو بالعكس يقصي ويعاقب ويعذب من يشاء، من غير حساب أو وازع من خلق أو شرع أو قانون، على ما جرى في غير بلد عربي حكمه طغاة تحت شعارات التحرّر والتقدّم والاشتراكية والوحدة والعدالة الاجتماعية، الأمر الذي جعل الناس تترحّم على عهود الملكية والاستعمار.

 

ولكن للظاهرة وجهها الآخر. فالأجيال الجديدة التي تربّت على قيم الحرّية والعدالة التي دمرتها الانقلابات العسكرية بأنظمتها الأمنية وأجهزتها المخابراتية، والتي أخذت تستفيد، على نحو إيجابي، من التحولات العالمية لعصر العولمة والمعلومة والصورة، كانت تراكم غضبها تجاه الواقع الذي يزداد بؤساً وتردياً، بقدر ما كانت تختزن خبرات جديدة تنتظر الفرصة لتنفجر وتتحول إلى إمكانات خصبة للتفكير والعمل على تغيير الأوضاع، وتحرير اليمن من براثن الاستبداد ومهاوي الفساد.

 

ولما نجحت الثورة في تونس، ثم في مصر، انتقلت عدواها بسرعة إلى اليمن فاندلعت تظاهرات حاشدة في صنعاء وتعز وعدن وفي غير مدينة، على غرار ما جرى في القاهرة، وكلها تطالب بتنحّي الرئيس وسقوط النظام.

 

ولكن الرئيس اليمني لم يذعن لإرادة الأغلبية الساحقة من شعبه، بل ظلّ طوال شهور يراوغ ويناور ويتلاعب، متقلباً بين المواقف، فيدعو إلى الحوار من جهة، ويطلق النار على المظاهرات السلمية من جهة أخرى، أو يعلن قبوله بالتنحّي عن السلطة، ثم يأمر كتائبه الأمنية بالهجوم على بيوت المعارضة ومقراتهم.

 

وبالطبع، فما رمى إليه الرئيس اليمني من ذلك هو هدر الفرص وتضييع الوقت، للالتفاف على الثورة والعمل على إجهاضها أو إفقادها زخمها، في انتظار متغير ما يقلب المعادلة لمصلحته. ولهذا فهو عندما حانت ساعة الحقيقة، رفض توقيع المبادرة الخليجية، مختلقاً الأعذار التي لا تقنع أحداً، بل لجأ إلى استخدام العنف، لجرّ البلد إلى الحرب الأهلية، لأنه لا يريد التنحي، كما أدرك ذلك الكثيرون منذ اندلاع الاحتجاجات.

 

هل سينجح الرئيس اليمني في خطته؟ أياً يكن، لم يعد بوسعه أن يحكم اليمن كما كان يفعل من قبل، فلا عودة إلى الوراء، بل هو سيفشل ما دامت الثورة، بشبابها وشيوخها، بنسائها ورجالها، تصرّ على سلميتها وتشكّل هويتها المفتوحة والعابرة لحواجز المجتمع الأهلي والقبلي.

 

لكي تمارس حيويتها الخلاّقة، باجتراح الوسائل التي تقاوم بها محاولات تفشيلها، أو فتح الإمكان لما به تتغيّر وتغيّر واقع اليمن، على النحو الذي يمكّنه من إعادة بناء نفسه، سواء من حيث ممارسة الحرّية وتداول السلطة، أو من حيث إنتاج المعرفة وإنجاز التنمية وعدالة الثروة..

 

ولذا، ليس أمام الرئيس سوى التنحّي، وإلا سوف يلقى نفس المصير البائس الذي لقيه من تنحى من نظرائه، بل سيكون مصيره أكثر بؤساً، نظراً للأثمان الباهظة التي كلفها لشعبه، دماءً ودماراً.

 

لم يعد ممكناً في هذا العصر الحكم بالخطف والتعذيب والقتل. هذا رهان خاسر، ومدمّر لأصحابه بالدرجة الأولى. ومَن يفعل ذلك يورّط نفسه وأسرته وكلّ مَن يلوذ به، بل هو يحكم على نفسه ويجلب لنفسه الدمار الذاتي بما يشبه الانتحار.

 

Email