العلوم الاجتماعية والثورات العربية

ت + ت - الحجم الطبيعي

مرة أخرى تثبت العلوم الاجتماعية في العالم العربي، تخلفها عن الأحداث الهائلة التي تواجهها المنطقة. وهو أمر فتح الباب واسعا أمام الإعلاميين وغير المتخصصين، للحديث لوسائل الإعلام المختلفة بدرجة كبيرة من التبسيط، وبإقحام ضخم للايديولوجيا والمصالح الشخصية الضيقة والتعميمات المفرطة. فالواقع العربي قد شهد العديد من التحليلات حول الحالة الثورية الراهنة، دون أي اقتراب منهجي علمي حقيقي، ودون أية مقاربة نظرية تستطيع أن تجمع هذا التنوع الثوري العربي، وتقترب حتى من تخوم الركود الجاثم على العديد من الدول في المنطقة.

ففي الوقت الذي انطلقت فيه الدوريات العالمية ومراكز البحوث الكونية، في تحليل ما يحدث في العالم العربي وانعكاساته المختلفة، إذا بمثيلاتها العربية صامتة وعاجزة عن الفهم والتحليل. ويمكن للمرء أن يراجع دوريتين أميركيتين على درجة كبيرة من الأهمية، وهما «فورين بوليسي» و«فورين أفيرز»، ليرى حجم المتابعات العميقة لما يحدث في العالم العربي، بقسميه الثوري والمحافظ، ناهيك عن الاستشراقات المستقبلية بالغة الأهمية المرتبطة بمنشورات هاتين الدوريتين.

ويمكن القول بأن مجمل التناول الراهن للحالة الثورية العربية، ما زال مرتبطا بحالة المفاجأة التي زلزلت الواقع العربي الجامد، وأسقطت نظامين سياسيين عربيين. فالمفاجأة التي حدثت بها هذه الثورات، قد أربكت العالم العربي ككل، كما أربكت كافة المؤسسات البحثية الرسمية والخاصة المرتبطة بالتحليلات السياسية والاجتماعية، وهو أمر أدى بالتأكيد إلى تراجع في التناول وضعف في التحليل. كما أن الارتباط الواضح والمسبق بالمؤسسات الحاكمة، والرغبة المتراكمة في إرضاء السلطات المهيمنة، قد أدى بدرجة كبيرة إلى غياب التحليل النقدي الجاد والرصين، وهو أمر لعب دورا كبيرا في انتشار منهجية النقل الحرفي عن النظريات الغربية، وتدريسها بشكل روتيني لطلبة الجامعات، في اجترار عبثي لمقولات تؤبد الواقع المعيش وتهلل له. صحيح أن هناك بعض الحالات التي خرجت عن هذا النهج، لكن السياق العام أجبر الغالبية العظمى على الالتزام بهذا النهج التحليلي الراكد.

ولعل من أبرز عيوب الدراسات السياسية والاجتماعية العربية، انطلاقها من رؤية مسبقة مرتبطة بالتوجهات السياسية المطروحة من قبل النظم الحاكمة، وهو أمر يؤدي إلى الانطلاق من النظريات التي تركز على التوصيف المجتزئ للواقع، والتأكيد على تماسكه. وينبع هذا التأكيد من نظرة أخلاقية خاطئة، بقدر ما تتماهى مع النظم السلطوية، فإنها تتعامل مع البحوث السياسية والاجتماعية من منطلق قيمي محافظ، وفي بعض الأحيان غير القليلة من منطلق ديني أخلاقي. ففي كل نظام عربي يوجد العديد من المحرمات التي لا يجب الاقتراب منها بحثيا، إضافة إلى نقص حاد جدا في البيانات الإحصائية المطلوبة، رغم إنشاء العديد من المراكز القومية الإحصائية في مختلف الدول العربية.

ولا يقف الأمر عند هذا المستوى، بل يرتبط أيضا بضعف القدرة على التنظير، من خلال حالة الجبن الذاتي التي يفرضها الباحثون على أنفسهم طوال سنوات عملهم الأكاديمي. فالملاحظ أن الباحثين العرب يتميزون بالضعف الشديد في القدرة على صك المصطلحات التي ترصد الواقع العربي وتبلوره. والمسألة لا تتعلق فقط بالقدرة على بناء هذه المصطلحات، وإنما تتعلق أيضا بالقدرة على بناء إطار نظري متكامل منسجم معها، وقادر على توصيف وفهم الواقع السياسي والاجتماعي العربي في كليته وتفاصيله على السواء.

وتنبع أهمية خلق مفاهيم ونظريات للواقع السياسي والاجتماعي العربي، من ناحيتين؛ أولاهما تتمثل في كسر احتكار النظريات الغربية لتوصيف وتحليل الواقع العربي، على الرغم من أهمية تحليلات بعض هذه النظريات. وتتمثل الناحية الثانية في خلق مدرسة نظرية سياسية واجتماعية، قادرة على التوصيف والتحليل الجيد للواقع العربي المعاصر، وبشكل خاص بعد الحالة الثورية التي انتابته، والتي لا شك في أنها مستمرة في التوسع.

إن التغيرات الحادثة الآن في العالم العربي، يجب أن تدفع في اتجاه تحفيز البحوث السياسية والاجتماعية، خصوصا في ظل الحريات الجديدة المتاحة التي كفلها المناخ الثوري العربي الجديد، والتي سوف تؤثر على مساحات كبيرة من العالم العربي، بغض النظر عن نوعية نظمها السياسية. فالانفتاح البحثي الحر، سوف يتحرك من مكان لآخر في ظل العلاقات العربية ـ العربية، وبحكم التقارب الجغرافي، إضافة إلى سهولة التواصل عبر الإنترنت وآلياتها المختلفة التي تقفز فوق الحواجز التي تفرضها الرقابة العربية، وتوفر مناخا أكاديميا بحثيا للعلوم الاجتماعية لم تعهده المنطقة من قبل.

 

Email