خلدون النقيب وسوسيولوجيا خليجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

غادر عالمنا يوم السابع والعشرين من إبريل المنصرم، المفكر الكويتي خلدون النقيب، تاركاً وراءه العديد من الكتابات المهمة، التي يأتي على رأسها كتاب «المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية.. من منظور مختلف». ولقد تناول النقيب من خلال هذه الكتابات المجتمعات الخليجية، وحاول تحليلها بشكل علمي منضبط.

ويرى البعض أن كتابات خلدون النقيب أوجدت ما يمكن أن نطلق عليه «سوسيولوجيا خليجية»، وهو أمر يتعلق بالدراسة العلمية غير الانطباعية للمجتمعات الخليجية، ومحاولة التوصل لأبرز الأسس الخاصة بها، وعلى رأسها الدور الفعال للقبيلة في تركيبتها. وتأتي أهمية كتابات النقيب كونها من أوائل المحاولات التي تعاطت مع المجتمعات الخليجية، ومنها حالة الكويت على وجه الخصوص، بشكل علمي يطبق المناهج الحديثة على قراءة المجتمعات الخليجية وواقعها السياسي. وربما منحت تلك الكتابات الكويت مكانة أكبر وأعمق من غيرها من المجتمعات الخليجية الأخرى، من ناحية فهم آليات العملية السياسية والحراك الاجتماعي في الكويت، وإن كان هذا التحليل يمكن تطبيقه بدرجة أو بأخرى على كل المجتمعات الخليجية.

ويعتبر خلدون النقيب واحداً من علماء الاجتماع القلائل جداً في الدول الخليجية، الذين اهتموا بالمزج بين الدراسة الأكاديمية وبين الفهم السوسيولوجي السياسي لهذه المجتمعات، وهو أمر بالغ الحساسية بالنسبة للمجتمعات حديثة النشأة بشكل عام، ومجتمعات الخليج بشكل خاص، من ناحية تعدد العناصر الفاعلة في هذه المجتمعات، والتفاعل الصراعي أحيانا بين الأصالة والمعاصرة، والجمود والانفتاح معا.

وهنا تجب الإشادة بالنقيب من ناحية اهتمامه المبكر بتحليل هذه المجتمعات، في ظل ندرة الكتابات المعنية بذلك. كما يجب علينا وبحق، اعتباره مؤسسا للسوسيولوجيا السياسية في الخليج العربي، واضعين في الاعتبار المخاطر التي واجهها نتيجة لذلك، والثمن الذي دفعه مبكراً بسبب تحليلاته.

واهتم النقيب أيضاً بحركة النشر وتطويرها، وهو ما أدى به إلى تأسيس مجلتين على درجة كبيرة من الأهمية والانتظام، هما «المجلة العربية للعلوم الإنسانية»، و«حوليات كلية الآداب» عندما تولى عمادة كلية الآداب في جامعة الكويت، إضافة إلى «المجلة العربية للعلوم الاجتماعية»، وهي منشورات لعبت دوراً كبيراً في تطوير الدراسات والبحوث السوسيولوجية، سواء خليجياً أو عربياً. كما أن هذه الدوريات قد لعبت دوراً كبيراً في التعريف بالسوسيولوجيا العربية، والتواصل بين المفكرين والأكاديميين العرب.

ومن الكتب المهمة للنقيب، والتي ربما لم تأخذ حقها من النقد والتحليل من جانب المفكرين العرب، كتاب «آراء في فقه التخلف.. العرب والغرب في عصر العولمة»، الصادر عام ‬2002. ويحاول النقيب في هذا الكتاب من خلال جهد كبير، أن يتناول العديد من القضايا، مثل العلاقات بين دول العالم الثالث والدول الكبرى المهيمنة كونياً.

ورغم هذا التناول الكوني لقضايا شائكة ترتبط بدراسات التنمية والأدبيات المرتبطة بها، فإن النقيب يتناول قضايا أخرى في الكتاب، مثل الأحوال الاجتماعية والثقافية في الكويت، والقضية الفلسطينية، وقضايا المواطنة في العالم العربي، وغيرها العديد من القضايا المحلية الأخرى.

ولعل هذا التناول المتعارض والمتضارب الموضوعات، يشي بذلك الزخم من المقضايا التي كانت تدور في عقل النقيب والرغبة في تناولها، بغض النظر عن تشتتها ومدى العمق الخاص بها، بما يرهق القارئ من ناحية ويأتي على حساب التناول من ناحية أخرى.

ويمتد الكتاب كحلقة في مشروع النقيب القومي العربي، الذي ينطلق منه عبر معظم إن لم يكن كل كتاباته، فالكتاب في جوهره محاولة لفهم العالم، بما يؤدي إلى فهم الواقع العربي المحلي في خصوصية علاقاته وارتباطاته، التي يجب أن تتكامل وتتواصل بشكل فاعل وناجح. وما يهم أن مشروعه القومي العربي، لا يتم بالمواجهة مع المشاريع الغربية الأخرى، بقدر ما يتم من خلال نقدها والتواصل معها، خصوصاً في ظل الاستخدام المتكرر والمفرط أحياناً من جانب النقيب للمفاهيم الغربية والاستدلال بها.

يغادرنا النقيب اليوم وقد شهد العديد من الثورات العربية التي تندلع هنا وهناك، والتي سوف تتسع وتيرتها يوماً بعد يوم. يغادرنا وهو يؤكد عبر كتاباته أهمية المواطنة والتعامل مع الأفراد من خلال الحقوق والواجبات. فرغم تحليلاته المهمة للمجتمعات العربية، فإن لسان حاله كان يؤكد دائماً وأبداً أهمية صيانة حقوق المواطنين، والعمل على تحريرهم من الانتماءات الضيقة العرقية والدينية والقبلية والسياسية، التي تؤدي إلى التمايزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ما بينهم، والارتكاز فقط إلى الحقوق والواجبات، بما يؤسس لمبدأ المواطنة والمساواة والعدل الاجتماعية. وهي قضايا إن لم تُحل على وجه السرعة، فإن الثورات العربية سوف تستمر وتستفحل، رغم المحاولات الدؤوبة لوأدها.

رحم الله خلدون النقيب وألهم أهله الصبر والسلوان.

 

Email