السودان وسياسة البقاء بالأزمات

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعيش النظام السوداني سلسلة ودوامة من الأزمات، يظن المراقبون أن كل واحدة منها كفيلة بإسقاط أي نظام في الظروف العادية، ولكن النظام يتجاوز كل التوقعات والتحليلات، بل يبدو وكأن الأزمات تحصنه، وما لا يقتله يقويه.

ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، والقول بأن النظام صار يفتعل ويخلق الأزمات، لكي يوظفها في البقاء والاستمرار وشغل المواطنين. فقد توقع الكثيرون أن تكون محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في أديس أبابا عام ‬1995، هي قاصمة الظهر للنظام، ولكنه تجاوز الإدانات والمقاطعات والقصف وهجمات المعارضة المسلحة.

ثم جاء الخلاف مع عراب المشروع الشيخ حسن الترابي، نهاية ‬1999؛ أو ما اصطلح على تسميته «المفاصلة»، التي أدت إلى الانقسام بين حزب المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي. وتوقع البعض تكرار تجربة اليمن الديمقراطي منتصف ثمانينات القرن الماضي، حين تمت تصفيات دموية بين الرفاق. وتحولت الأزمة الكبرى إلى مناوشات ومطاردات صغيرة مستمرة، يحركها النظام حين يريد. ثم جاءت مفاوضات السلام الماراثونية حتى وقعت اتفاقية السلام الشامل ‬2005. وكانت الفترة الانتقالية نموذجاً للنكد والمنغصات بين الشريكين، مليئة بالمشكلات حتى انتهت بالانفصال مطلع هذا العام. وفي هذه الأثناء لم تتوقف الخلفية العنيفة لأحداث دارفور الكارثية.

ظنّ السودانيون أنهم قد طووا صفحة الحروب والاقتتال والدمار، وسيبدأ عهد التنمية والبناء مع عهد اتفاقية السلام الشامل. أمّا النظام فقد كان يعول كثيرا على توقيع الاتفاقية وإيقاف الحرب، وبالتالي قدم تنازلات كبيرة وقبل باتفاق مليء بالعيوب والثقوب، إذ كان يرى في وقف الحرب إرضاء للغرب الذي وقف باستمرار مؤيدا لمطالب الجنوبيين القومية. وحين بدأت المفاوضات التمهيدية المبكرة، كانت العقوبات الاقتصادية ضد النظام في السودان قد بدأت. لذلك، ولدت مبكرا علاقة ما سمي بالجزرة والعصا في السياسة الأمريكية أو الغربية عموما، تجاه السودان. ومن الطبيعي أن تفهم كل سياسات النظام الخارجية تجاه مسألة الجنوب، في إطار الترهيب والترغيب أو مدى خدمة تلك السياسة لعملية القرب أو البعد من أمريكا والغرب.

ومن هنا يمكن أن نفهم التصعيد الحالي بشأن وضعية أبيي المتنازع عليها. فقد كان النظام السوداني يتوقع أن تسارع الولايات المتحدة الأميركية برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإلغاء العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، بعد أن أجري الاستفتاء بطريقة رضي عنها المراقبون الغربيون، ثم قبل بنتيجة الاستفتاء التي صوتت لخيار الانفصال، محتملاً النقد وتهمة التفريط في وحدة الوطن، فقد كان في انتظار مكافأة أعظم من تلك التضحيات، ولكن الولايات المتحدة منذ يناير ‬2011 تجاوزت الجنوب واتفاقية السلام الشامل، وشرعت في التركيز على دارفور.

أراد الرئيس السوداني في خطابه الأخير في جنوب كردفان، أن يبعث برسائل مغلّظة تهدد بالحرب وإخضاع الجنوب، مذكرا الجنوبيين ببلائه القديم في حروبه ضدهم. ويأتي تهديد البشير، رغم الشعار المرفوع: لا عودة للحرب!

بداية لا بد من التوقف عند توقيت الزيارة نفسها، إلى جنوب كردفان وأهدافها. فقد زار الرئيس البشير الولاية التي ستشهد في الأيام القليلة القادمة، انتخابات لاختيار الوالي ونائبه والبرلمان الإقليمي، ضمن بروتوكول المشورة الشعبية. وتتنافس على منصب الوالي شخصيتان مثيرتان للجدل؛ أحمد هارون، مرشح حزب المؤتمر الوطني الحاكم والمطلوب دوليا من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية في دارفور. ولذلك لم يكتف الرئيس بزيارة نائبه علي عثمان محمد طه للمنطقة وقيامه بحملة انتخابية واسعة لصالح هارون، بل جاء بشخصه، لأن فوز أو فشل هارون له دلالات رمزية تطال النظام والرئيس معاً. ففي فوزه إسقاط بالتصويت الشعبي لتهمة المحكمة الجنائية، بينما يعني سقوطه التصويت بتسليمه ومحاكمته، والتأييد غير المباشر لقرار المحكمة الجنائية. فالانتخابات تتجاوز كادوقلي والدلنج إلى لاهاي، لذا لا تتحمل المسألة أي تفريط أو تساهل. ومن جانب آخر، يعني فوز عبد العزيز الحلو، مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان، وجود ولاية للحركة الشعبية في السودان الشمالي، بعد انفصال الجنوب. وهذا وضع معقد يجعل الاستقرار شبه مستحيل، خاصة في حالة إصرار حكومة الجنوب ـ مستقبلاً ـ على ضم أبيي.

ومن الواضح أن الطريقة التي خاطب بها الرئيس البشير الجنوبيين، تقع ضمن سياسة إدارة الحكم بالأزمات، فهذا تجديد لأزمة أبيي في مرحلة لا تتحمل الحديث أو التهديد بالحرب ولو هزلاً، ولكن من الواضح أن النظام السوداني ما زال يرى حقبة السلام بعقلية الحرب، أو بلغة أدق عقلية القوة والعنف، حتى إن لم تصل درجة الحرب. فقد قدم الرئيس في خطابه بجنوب كردفان، خياراً يفسر مجمل سياسات النظام، حين قال: إما صندوق الانتخابات أو صندوق الذخيرة! فالمسافة شديدة القرب بين الصندوقين لدى النظام.

وللأسف، تتحدث المصادر عن حشود ضخمة على حدود أبيي، وزاد الحديث عن «شمالية» أبيي بين المسؤولين الشماليين وفي وسائل الإعلام الرسمية. وهكذا يبلغ النظام السوداني الدول الغربية، بأن اتفاقية السلام الشاملة ما زالت ناقصة، وأن دوره لم ينته بعد، خاصة وأنه لم ينل أي مقابل.

ولكن السؤال؛ ما مدى فاعلية هذا السلاح، أي افتعال الأزمات، في مواجهة الغرب؟ أخشى أن يكون السودان مع التحولات التي اجتاحت المنطقة، قد فقد كثيرا من أهميته دون أن يدرك ذلك. يضاف إلى هذا ضيق مساحة المناورة التي يلعب فيها النظام، بعد أن تنازل عن كثير من أوراقه حتى قبل الانفصال. ولم يعد التراجع مجدياً وسياسة حافة الأزمة غير فعالة؛ فهل لدى النظام السوداني القدرة على الدخول في حرب مجددا في الجنوب، وهو الذي لم يستطع حسم دارفور عسكريا منذ ‬2003؟ لقد كان الجلوس إلى مائدة المفاوضات من البداية دليلاً على أننا أمام طرفين ـ الحركة الشعبية لتحرير السودان، والنظام السوداني ـ منهكين وغير قادرين على الحرب، ولكن على إثارة التوتر.

ورغم أن النظام استطاع أن يعيش على إنتاج الأزمات، إلا أن هذه السياسة سلاح ذو حدين؛ فمن المعروف أن التصعيد في أي أزمة يولّد أجنحة متشددة، وأخرى معتدلة. وهذا برز في السودان في الأيام الأخيرة، وأدى إلى معركة نافع علي نافع وصلاح قوش، التي انتهت بإعفاء الأخير وتقوية الجناح المتشدد بلا منازع، لكن من الخطأ الظن بوجود خلاف في جوهر سياسة إنتاج الأزمات، وإنما الخلاف في الأسلوب والممارسة.

Email