المثقفون العرب والسلطة

ت + ت - الحجم الطبيعي

انتابني شعور عميق بالألم والخيبة معا، حين نزل الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المصري السابق وأستاذ القانون الدستوري في الجامعات المصرية، من عربة الترحيلات الآتية من سجن طرّة للنيابة العامة، لمواصلة التحقيق معه في قضايا متعلقة بالتكسب من موقعه الرسمي. وهذا ما يؤلم، أن يأتي إلى المحكمة أستاذ جامعي علّم الآلاف ووضع القوانين والدساتير، مخفورا إلى القضاء بسبب الكسب غير المشروع وتبديد أموال الشعب. لم تكن قضية رأي أو انضمام لتنظيم «محظور» مثلا. ودهشت، ألم يحصنه علمه ومعرفته وحكمته من هذا المنزلق؟ وسرعان ما سألت نفسي من الذي أفسد الآخر: هل أفسدته السلطة أم أفسد هو بوصفه مثقفا السلطة؟ أم أن الإفساد متبادل؟

حاول المثقفون ــ عموما ــ والملتزمون منهم على وجه أخص، تقديم أنفسهم كطلائع للتغيير وأصحاب وظيفة رسالية في المجتمع. وقد تم تبني هذا التقييم من قبل قطاعات واسعة، مما أعطى دور المثقفين قدرا من القبول والتوقع لسنوات طويلة، مما سمح لهم بالمشاركة في السلطة وقيادة المرحلة. ولكن مع فشل مشروعات مرحلة الستينات التي حاولت تطبيق نظريات وأيديولوجيات طرحتها تلك النخب المثقفة من خلال تنظيماتها السياسية، تغير الوضع تماما. فقد ظهرت دعوات أقرب إلى «موت المثقف العربي» صاحب الدور الرسالي، وأن يتواضع المثقف العربي ويعلم أن مهمته هي فقط إنتاج الأفكار، وليس تغيير العالم. وهذا موقف يقوده مفكرون أمثال د. علي حرب ويروجون له. وقد تكون هذه دعوة عقابية، بسبب دور المثقفين العرب القوميين والتقدميين واليساريين، في فشل مرحلة التحرر الوطني، والكوارث والهزائم التي جلبوها للعالم العربي وشعوبه.

 شهدت الحقبة التي تلت حرب فلسطين أو نكبة ‬1948، صعود العسكريتاريا إلى السلطة عن طريق الانقلابات. وهنا تم زواج غريب قائم على الانتهازية، بين العسكر والنخبة المثقفة، إذ كان كل طرف يظن أنه يستغل ويوظف الطرف الآخر. وكان المثقفون يرون أنهم يقدمون العقل والفكر، وعند العسكر القوة والعضل. وظن المثقفون أنهم أذكى وأقدر من العسكر، وبالتالي طمعوا في الاستحواذ على الثورة والانفراد بها. ولكنهم فشلوا في كل المحاولات، وضربت النظم العسكرية الأحزاب التي تحالفت معها، مثل الإخوان المسلمين في ثورة يوليو المصرية، والشيوعيين السودانيين مع نظام الفريق النميري عام ‬1971، ومع القوميين والناصريين والبعثيين في اليمن وسوريا والعراق. وتحول المثقفون في كل هذه الحالات، من شركاء وحلفاء إلى تابعين، بعد أن حلوا أحزابهم، وتم دمجهم أو تذويبهم في الحزب الواحد الذي غالبا ما باعوا فكرته للعسكر من قبل. وتتسم علاقات المثقفين بالسلطة، وهي غالبا ما تخضع لمحاولات هيمنة العسكر، بقدر كبير من التوجس وعدم الثقة، وتنتهي بالغدر. ويعود ذلك إلى ما يمكن تسميته بالتعالي المتبادل، إذ يعتقد المثقفون أن حلفاءهم لا يملكون عقلهم وفهمهم. وفي نفس الوقت يرى العسكر أن المثقفين تعوزهم الشجاعة والحسم. وقد انتهى الصراع بإخضاع المثقفين في أغلب الحالات، بمعنى انتصار الخط الرافض للديمقراطية والتعددية الحزبية.

أنجز المثقفون مهمة شرعنة وتبرير النظم الدكتاتورية التي انتفضت الشعوب العربية عليها الآن، وبعد القمع الطويل، من أجل إزالتها. ولم تكن هذه الانقلابات قادرة على الاستمرار بقواها الذاتية، لولا نجدة المثقفين. وللمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي وصف ذكي للتحول الذي يفرضه الواقع، إذ يقول: «لا يمكن للعسكر أن يجلسوا على رماحهم إلى الأبد!»، ويعني بالرماح السلاح عموما، فهم يستولون على السلطة بالقوة ثم يأتي المثقفون لإنزالهم من رماحهم، أي جعل الانقلاب مدنيا ومقبولا شعبيا، من خلال رفده بالأيديوجيا وتفصيل الدساتير والتأثير على تكوين الرأي العام. والمثال الجيد على هذا الإنزال ما أصبح يسمى «ثورة يوليو ‬1952»، والتي ألهمت الانقلابات اللاحقة في البلدان العربية. فقد كان الضباط الأحرار بعد نجاح ما فعلوه، لا يعرفون ما يطلقون عليه من تسمية. ولم تدر صفة ثورة على خواطرهم، بل قنعوا بتسمية «الحركة المباركة»، كأقصى سقف لطموحهم في التغيير. ولكن سرعان ما وجدوا إلى جانبهم علماء أمثال عبد الرازق السنهوري (ولا ننسى حادثة ضربه بالحذاء في أحد النقاشات)، وحتى سيد قطب تمت الاستعانة به. ومنذ عقود قام المثقفون بأغرب مقايضة في تاريخ التطور السياسي العربي، لا تقل عن صفقة دكتور فاوست مع الشيطان. فقد قبلت النخب العربية المثقفة، بمختلف تياراتها الفكرية، بالتنازل عن مطلب الديمقراطية مقابل تحرير الأرض والتنمية. وساد شعار: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة! وتداول المثقفون معادلة: الخبز أو الحرية. وفي النهاية، خسرت الشعوب العربية الحرية والخبز معا، ونالت الفقر والقمع!

قام عدد من النخب العربية المثقفة بعمليات مراجعة فكرية وسياسية، ونقد ذاتي. وفكّ كثير من المثقفين ارتباطهم بالسلطة وبأفكارهم الاستبدادية، ولكن الكثيرين منهم لم يتحولوا إلى ديمقراطيين. وقد يفسر ذلك بنوع من التشبث النفسي بماضيهم أو سيطرة الأفكار القديمة عليهم. فقد وجدوا مبررات جديدة يصدّون بها إمكانية تحولهم إلى ديمقراطيين حقيقيين. فقد خلقوا جفوة مفتعلة بين المقاومة والعداء للاستعمار والصهيونية، وبين الديمقراطية، وكأنه من المستحيل أن تكون ديمقراطيا ومعاديا للإمبريالية في آن واحد. ويلاحظ المرء في الندوات والمؤتمرات واللقاءات التي تعقد للتداول في الشأن العربي، بروز هذا الاستقطاب الشاذ بين المقاومة والديمقراطية، وفي كثير من الأحيان يأتي الحس الديمقراطي ضعيفا في البيانات الختامية والوثائق التي تصدرها هذه التجمعات. ومن المثير للسخرية، حديث هذه التجمعات عن الديمقراطية، بينما بعض عضويتها يمثل نظم حكم قائمة على الحزب الواحد! فمن الواضح عدم جدية النخب العربية في دعوتها للديمقراطية.

ظهرت مجموعات «ديمقراطية» تشكلت في منظمات المجتمع المدني، أو من تطلق عليهم تسمية «النشطاء». ومن الواضح أن أغلبهم جاء من تاريخ غير ديمقراطي، لأن هذه النخبة المثقفة عجزت عن تقديم قدوة للديمقراطية في نفسها. فقد افتقدت الديمقراطية الداخلية ومارست الشللية والإقصاء، ولم تقدم ـ عدا قلة ـ أي مساهمات نظرية وفكرية، لتعميق قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والعقلانية. وقنعت النخبة الجديدة بدور الدفاع العملي عن انتهاكات حقوق الإنسان، وهذه مهمة جيدة وكانت مطلوبة في مرحلة سابقة، ولكن الوضع مختلف الآن. فالمثقفون عليهم أن يدركوا أنهم يمثلون سلطة معنوية وضميرا شقيا، مع دورهم في خلق الأفكار وإنتاجها. وأتمنى ألا ترى الأجيال القادمة، صورة مثل التي رأيناها لفتحي سرور أو مفيد شهاب.

 

Email