السودان.. دعوة للجدية والواقعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعاني العقل السياسي السوداني، بشقيه الحاكم والمعارض، من علل وأزمات متجذرة هي السبب الحقيقي للأزمة السودانية المزمنة. ومن أهم مظاهر خلل هذا العقل السياسي، فقدان الجدية مصحوبة بسوء تحديد وتقدير الأولويات. وهذه خصال تلتقي فيها القيادات العليا النشطة، مع أدنى عضوية في القاعدة.. وبالإضافة إلى عدم الجدية هذا، هناك عدم المثابرة، إذ لا تتم متابعة مناقشة أي قضية حتى النهاية أو الخاتمة.. وهذا ما يفسر تكرار الأزمات والأخطاء، وبالتالي يجد التاريخ صعوبة في أن يعلمنا دروسه. هناك نماذج عديدة تؤكد عدم الجدية والمتابعة والمثابرة، ولكنني سأعطي أولوية لحادث القصف الجوي الذي تعرضت له منطقة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر.

فقد كشفت الحادثة أن السودان نحو الدولة الفاشلة، حسب التعريف النظري المتداول، فهي «الدولة التي تعجز عن حماية كامل ترابها الوطني أو الاحتفاظ به». وليس المقصود مجرد الحماية «الفنية» أو الدفاعية للحدود الدولية المعترف بها عند الاستقلال، ولكن القدرة على تحقيق الأمن والتنمية والحرية والكرامة للمواطنين الذين يعيشون على هذا التراب الوطني. فهذه العلاقة التعاقدية بين الدولة والمواطنين، هي الضمان الوحيد لقدرة الدولة على أداء وظائفها وواجباتها بكفاءة وقدرة. فالدولة حتى ولو كانت ضعيفة تكنولوجيا، فإن الشرعية الشعبية الحقيقية تمنحها روح ومعنويات الصمود العملي، غير الشعاراتي والدعائي.

تكرر قصف هذه المنطقة للمرة الثانية خلال حوالي عام، إذ من الواضح أن الكيان الصهيوني قد صنّف ساحل البحر الأحمر الشاطئ للسودان وجنوب مصر، منطقة عمليات ضد تهريب السلاح إلى قطاع غزة وإلى منظمتي حماس والجهاد.

ومن المؤكد أن وزارة الخارجية السودانية وجهاز المخابرات والأمن الوطني، يعلمان هذه الحقيقة التي أصبحت في متناول الناس العاديين. فما هي مظاهر الجدية في رد الفعل السوداني؟ وهنا يطرح سؤال الجدية في مجمل السياسة الخارجية، فالنظام الحالي تبنى من البداية، أن مفهوم سياسة ـ سواء الداخلية أو الخارجية ـ يعني الشطارة والمناورة.

ولكن من الملاحظ أن النظام، منذ البداية، أولى اهتماما زائدا بالدور الخارجي، ويرجع ذلك إلى أن التأييد الداخلي للانقلاب لم يكن كبيرا، باعتبار أن الجبهة الإسلامية هي التي هندست الانقلاب. وهي بدورها عملت على استثمار الدور العالمي المنتشر للحركات الإسلامية، في الترويج لانقلاب السودان باعتباره وصول أول حركة إسلامية سنية إلى السلطة في المنطقة العربية. ومن ناحيته، قدم النظام الجديد نفسه كدولة ممانعة وصمود، معادية للإمبريالية والصهيونية. وشرع د. حسن الترابي بعد حرب الخليج الثانية، في تأسيس ما يمكن اعتباره أممية إسلامية تجمع قادة الفكر والتنظيمات والأحزاب الإسلامية والقومية في العالم. وقد شجع النظام ـ بقصد التمويه ـ ما أسماها الدبلوماسية الشعبية، ومن بينها «مجلس الصداقة الشعبية العالمية»، الذي دعا إلى مؤتمر شعبي للقيادات سابقة الذكر.

افتتح في أبريل ‬1990 في الخرطوم ما سمي «مؤتمر فعاليات الأمة»، وسرعان ما كوّن أمانة دائمة باسم «المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي». وصار الترابي أمينا عاما للأممية الإسلامية ـ القومية. وقد تحمست الفصائل الفلسطينية جميعها للفكرة، وكان قد حضر جورج حبش ونايف حواتمة ذلك اللقاء. ومنذئذ قرر النظام تقديم نفسه كدولة مواجهة وصمود تعوض تخلي بعض الدول «التقدمية» عن مناصرة الثورة الفلسطينية. ورغم المفاصلة وإبعاد الترابي، استمرت العلاقة مع الفصائل الفلسطينية ولكن النظام السوداني مال أكثر إلى «حماس» في غزّة.

هذا تاريخ مهم لفهم حدث القصف الأخير؛ لأن الكيان الصهيوني يربط النظام ودعم «حماس». وقد يكون مجرد اتهام، ولكنه يوظف ضد السودان. ولكن مثل هذا العمل يعطي إشارة واضحة وقوية للولايات المتحدة، بأن السودان غير مؤهل لرفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وهذا ما يخشاه النظام، رغم الحديث اللفظي عن عدم التبعية للغرب.

وهنا تظهر ازدواجية وعدم جدية النظام السوداني، إذ يتطلب هذا الموقف المقاوم استعدادا لتحمل تبعات كبيرة، أولها الإجماع الوطني والتماسك الداخلي أو المنعة الداخلية، إذ يصعب على نظام عجز عن إبقاء الوطن موحدا، أن يدعي القيام بمثل هذه الأدوار القومية. وهذه ليست دعوة للانكفاء أو الانبطاح أمام الإمبريالية والصهيونية، ولكن لابد من توفر الشروط الموضوعية والواقعية للصمود، خاصة وقد جربنا العنترية الفارغة والحنجورية، والنظام الذي لا يحرر شعبه يستحيل أن يسهم في تحرير الشعوب الأخرى.

أما على مستوى العلاقات مع العالم، فالسودان يعاني من العزلة والحصار والتدخل الدولي. ورغم التنازلات العديدة التي قدمها النظام السوداني، بدءا من توقيع اتفاقية السلام الشامل عام ‬2005 وحتى الاستفتاء على الانفصال ‬2011، فقد أصدر مجلس الأمن الدولي عددا كبيرا وخطيرا من القرارات، بدءا من القرار ‬1590 الصادر في مارس ‬2005، الذي وسع مهام بعثة الأمم المتحدة في السودان وربطها بالفصل السابع من الميثاق، أي باعتبار أن «الحالة في السودان لاتزال تشكل تهديدا للسلام والأمن الدوليين». وكانت اتفاقية السلام الشامل مدخلا للتدخل الدولي، فقد اعتمد القرار وجود قوات حفظ سلام تابعة للبعثة الدولية، تصل إلى ‬11,000 جندي وشرطي وضابط، وتنتشر في المناطق المتأثرة بالحرب وغيرها من المناطق. وللمفارقة، هذا رقم كبير يتجاوز حجم قوات الاحتلال عشية إعلان الاستقلال (الجلاء). وقد أعطيت البعثة صلاحيات واسعة، تضاف إليها تدخلات مجلس الأمن الدولي في دارفور حسب القرارين ‬1590 و‬1593، بالإضافة لتدخلات الاتحاد الإفريقي لمراقبة الأوضاع الأمنية في دارفور، ورعاية مفاوضات أبوجا. ورأى البعض في هذه العلاقة كأن السودان قد وضع تحت الوصاية الدولية.

أما الكابوس الآخر في السياسة الخارجية، فهو ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية. فهذا موضوع لا يمكن أن يظل معلقا إلى الأبد، ولن يستطع السودان ادعاء الاستقلالية وعدم التبعية للغرب، بينما يواصل «أوكامبو» ابتزاز رأس الدولة ـ بمناسبة وبلا مناسبة ـ بأمر القبض. وهنا تطل أميركا كل مرة، رغم أنها ليست عضوا في الاتفاقية، ولكنها تزيد من اعتماد السودان عليها؛ لكي تجد له مخرجا.. ومرة أخرى تجرح الاستقلالية والممانعة.

وفي النهاية، السودان مطالب بالواقعية والجدية في التعامل مع الخارج. فالدولة التي لا تدري حتى الآن هل ضربت بصاروخ أم بطائرة، ويظل ميناؤها الرئيس عاطلا من الرادارات ووسائل الدفاع الجوي، عليها أن تعرف قدر نفسها.

 

Email