ليس بالانتخابات وحدها يتحقق المجتمع الفاضل

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل الانتخابات العمومية للمجالس التشريعية تأتي بنتائج أفضل لإدارة أي مجتمع خليجي تقليدي، من تلك الإدارة التي تُسيَّر من غير المجالس المنتخبة؟! وبمعنى أوضح؛ هل الممارسات الحالية في أجهزة دولة الإمارات العربية المتحدة تمشي في اتجاه خاطئ؟ وهل هذا الاتجاه بحاجة ماسة إلى مجلس أو برلمان منتخب انتخاباً عمومياً ومن عموم الناس، لكي يتم تصحيح هذا المسار ويتحول الخطأ المزعوم إلى صواب؟!

مثل هذا السؤال لو ألقيناه على أنفسنا وناقشنا فيه أعداداً ممن تستهويهم كلمة الانتخابات وتثير في نفوسهم الرغبة للحديث عن مزاياها، وما تحمله ـ حسب اعتقادهم ـ من منافع للوطن والمواطنين، لسمعنا من الحديث ما يروي الغليل وما لا يروي، ولكن بالتمعُّن في الحديث والاستماع إليه بالتروي، لا يستشف السامع في كثير من الأحيان سوى جمل تنظيرية، من الكلام العام المستنبط من تجارب أفرزتها ممارسات مجتمعات ليست بيننا وبينها تلك الصلات الثقافية الوثيقة، والتشابهية في المستوى الفكري، في أوروبا، وفي أميركا، وفي الشرق الأقصى، وكل هذه المجتمعات كما هو واضح، قطعت شوطاً بعيد المدى في الممارسة الديمقراطية، واستوعبت الثقافة الديمقراطية، والتربية الديمقراطية، وأصبح كل هذا جزءا من همومها وحياتها اليومية..

أما تلك المجتمعات التي نحن قريبون منها وثقافاتنا وموروثاتنا مشتركة، كالمجتمعات العربية على سبيل المثال، فلا يبدو أن الشيء الذي مارسوه وخبروه قد أفرز تجربة محمودة قابلة للاقتداء من قبلنا، نحن الشعوب الخليجية الصغيرة، التي تنوء كواهلها بأي ثقل مرهق مستحدث، كالتحول السياسي المفاجئ.. وإذا قيل لنا لماذا تذهبون بعيداً لتستشهدوا بمجتمعات عربية خارج الحوض الخليجي، ودعونا نركز الحديث على الكويت ذات الصلة القريبة في جميع الأوجه، والكويت كما هو معروف، أول مجتمع خليجي يمارس نشاطاً ديمقراطياً، ويؤسس مجلساً منتخباً انتخاباً شعبياً من سائر أطياف الناس دون شائبة، ما عدا الشوائب المزعومة من قبل من كانوا يسقطون في الانتخابات..

والجواب على التساؤل هو؛ ماذا جنى الكويتيون حتى الآن داخلياً من منافع لم يتح لغيرهم في منطقة الخليج أن يجنوها؟ وهل كان المجلس، مجلس الأمة الكويتي، بتركيبته التي هو عليها، عملا ضروريا، ودعت إليه حاجات المجتمع الكويتي الملحة في وقتها؟! ألم يكن من الأفضل لو مشى الكويتيون في طريق متدرج بمجلس اختاره أهل الحل والعقد، ثم تتدرج في انتخاب جزئي قبل الانتخاب العام، كما تفعله الإمارات على سبيل المثال، التي تسعى إلى تعميم ثقافة الانتخابات، وبالتالي ثقافة الديمقراطية ونشرهما بين الناس، قبل الإقدام على تغيير شامل.. والحقيقة أنه لا يوجد إلا من يريد أن يكابر، لا يشيد بخطوة الكويت الجريئة في إقامة حكم نيابي في هذه المنطقة، منطقة الخليج، قبل نصف قرن، في الوقت الذي كان معظم الأقطار العربية يخضع لإدارة العسكرتاريا القمعية..

ولا يوجد شخص ملم بأوضاع الخليج ومتشرب بشيء من روح الديمقراطية والليبرالية، لا يقف احتراماً للتلاحم والانسجامية التي حصلت في الكويت يومذاك، بين قادتها وشيوخها من ناحية، وبين كل أطياف شعبها من ناحية أخرى.. ولا بد من الإشارة إلى أن الموقف الذي اتخذه قادة الكويت وشيوخها حيال هذ الأمر، كان موقفاً حضارياً بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى.

وقد يكون مُستغرباً بعد هذه الإشادة، القول بأن الديمقراطية، والانتخابات النيابية في الكويت، لم تنجح ذلك النجاح الذي عقدت عليه الآمال، وهو أن تصبح الممارسة نموذجاً يضرب به المثل في الأحسن والأفضل للكويت، ولمناطق الخليج الأخرى، ولم تعط الممارسة للمتحمسين لليبرالية في الخليج، حجةً يدحضون بها حجج المناوئين من أصحاب الأفكار المحافظة، الذين يرون الأفضلية في التطور التدريجي، وانكمشت التجربة الكويتية داخل حدودها ولم تتسرب إلى أماكن أخرى في المناطق القريبة من الخليج، ناهيك عن أن التجربة أصبحت تشير إلى شيء من عدم الانتظامية في العلاقة بين السلطة في الكويت وفئات من المجتمع الكويتي..

ولم تتوقف المسألة على الخلل التنظيمي في العلاقة، وإنما تسبب المرشحون لمجلس الأمة، بغض النظر عن النجاح في دخول المجلس أو عدم النجاح، في تبني ضجة عارمة من الشعاراتية التي كانت تهيمن على أدائها روح العسكرتاريا العربية، في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، والتهويل العارم لدى دعاة القومية العرب والبعثيين، ومن شابههم من الراديكاليين، ووقوف هؤلاء معرقلين للمشروع المعتدل الذي تبنته حكومة الكويت في مسيرتها الحيادية والإيجابية في علاقاتها بالغير، ومن يعود إلى قراءة المشهد السياسي يومئذ ويقرأ صحفاً كانت تمثل هذه الفئة الضجيجية يجد مصداق هذا القول..

ولم تجد حكومة الكويت حيال المحاولة للحد من قوة اندفاع القوميين والبعثيين، بداً من تشجيع فئات أخرى، ظنت أنها ستكون أكثر مراعاة للتنظيم العام، وتوقعت أن يأتي عن طريقها شيء من التوازن، ولكن ذلك لم يحصل، وجاء الإسلاميون كعادتهم بشعارات مبهمة لا تدل على شيء في نداءاتهم، سوى العبارة المكررة «الإسلام هو الحل».. ولم يتوقف الأمر في الحقيقة عند الإسلاميين وحدهم، بل اشتدت وطأة القبلية والفئوية في الكويت، ووصلت سلطة القبلية والطائفية إلى مستوى تناطح به النظام العام، وتعرِّض المساعي لبناء المجتمع المدني للخطر، وأصبح البرلمان، أو مجلس الأمة، مكاناً للسوداوية وإثارة الأحقاد، وضعضعة الاستقرار ووضع العراقيل في سبيل التنمية، حتى أصبحت الكويت بطيئة في الازدهار العام، وتخلفت عن دول في المنطقة كسبت الرهان في التقدم الاجتماعي والاقتصادي وحتى التعليمي، كالإمارات العربية وقطر.

إذن، بعد كل هذا نحن أمام تجربة غير مشجعة، لأنها لم تأتِ أُكلاً مستساغاً، ليس لعيبٍ في التجربة نفسها، ولكن لعيبٍ في الممارسة.. وبناء على ذلك، علينا في الإمارات، البحث عمّا يلائمنا من التجارب، علماً بأننا في مجتمع له خصوصياته، ومنها أن التركيبة السياسية تركيبة فدرالية تتيح لكل إمارة من الإمارات السبع، المكونة لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، أن تدير شؤونها الداخلية بالتعاون والتعاضد مع المؤسسات الاتحادية..

وفي رأيي أن هذه الفدرالية شكل من أشكال الديمقراطية.. إذا أتيح له أن ينمو ويترعرع عن طريق إقامة مجالس محلية، تعاون حكومة الإمارة في النظر في أحوال الناس واحتياجاتهم، كمجالس البلدية أو مجالس المدن، أو ما شابه ذلك، وعن طريق هذه المجالس يتم تدريب الناس على استيعاب ثقافة الانتخابات، وثقافة الديمقراطية، وثقافة بناء المجتمع المدني البعيد عن الطائفية والفئوية.

Email