العرب وبداية التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت الجمعة الماضية الحادي عشر من مارس ‬2011، يوما أوروبيا أو غربيا بامتياز. فقد تعددت اجتماعات مجلس قمة الاتحاد الأوروبي ووزراء الخارجية والناتو، وكانت «بروكسل» مشهدا أنيقا لقادة العالم الأغنياء، فقد وصلت الأزمة هذه المرة الشاطئ الجنوبي مباشرة، وفي ليبيا التي تزود أوروبا بالنفط الأقرب مسافة والأرفع جودة، والتي تتجول استثماراتها ومنحها ورشاها في أوروبا بلا قيود أو استحياء. وبطل الأزمة ليس مبارك ولا بن علي؛ بل هو مزيج عجيب من نيرون والحاكم بأمر الله وهتلر وكاليغولا وشارلي شابلن. لذلك، سيكون الاختبار صعبا، ويمثل جلجلة حقيقية لكل قيم ومواقف الغرب، ويضعها على محك الفتنة.

وبالفعل، ستجد نظريات الغرب عن نهاية التاريخ وموت الأيديولوجيا، نفسها تحت المساءلة. كما أن مواقف وسياسات الغرب تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسي ومحاربة الفقر وإعادة التوزيع والمساواة، ستجد نفسها مطالبة بتأكيد مصداقيتها على مستوى الواقع. وبالأمس استدعى الأوروبيون دبلوماسيتهم من عهد ريشيلو ودزرائيلي، وأرهقوا اللغة لكي تخفي أكثر مما تفصح، ولكن رغم كل الجهود، عجز الغرب عن إخفاء مكياله الثاني الذي يكيل به في الأزمة الليبية.

قام العقيد القذافي بعرض عملية مقايضة شديدة الخبث والحرج، تجاوز بها النفط مقابل الدكتاتورية، إلى الهجرة من الجنوب والإرهاب، مقابل الديمقراطية للشعب الليبي. فالغرب ـ دون ظلم له ـ متردد في مساندة المقاومة الشعبية من أجل السقوط السريع للقذافي، الذي يكرر هو وابنه أن سقوط هذا النظام يعني تدفق الهجرة من الجنوب إلى أوروبا، كما يهددان بعدم مكافحة الإرهاب. وهنا يدخل الأوروبيون في تناقض غريب عن العقلانية الأوروبية، ولكنها السياسة والمصالح.

فقد أكد الاتحاد الأوروبي أن القذافي «فقد شرعيته»، ولكنه يقول ذلك بلغة غامضة لكي يتجنب التقدم خطوة للأمام؛ ما هو البديل؟ وهل يعترف بهذا البديل إن وجد؟ بالتأكيد لاحظ الجميع وصف القذافي بأنه لم يعد هو المحاور الشرعي من ليبيا! ولم يستخدم الدبلوماسيون الغربيون صفة «الممثل الشرعي». وكانت النتيجة كارثية: لم يتم الاعتراف بشرعية المجلس الوطني الانتقالي (باستثناء فرنسا)! وأكدت الولايات المتحدة الأمريكية أنها سوف تتشاور مع المجلس، ولكنها لم تتطرق للاعتراف به. وترك مجلس قمة الاتحاد الأوروبي موضوع الاعتراف معلقا، رغم أهميته وارتباطه بخطوات أخرى حاسمة في الصراع. والتفسير الوحيد لهذا الموقف المتردد، يعود إلى عدم معرفتهم أو ثقتهم في أعضاء المجلس الانتقالي، ولكن الموضوع أبعد مما يبدو، إذ يظهر أن القذافي قد باع فكرة أن عناصر «القاعدة» وبعض العناصر الإسلامية المتطرفة، لها وجود في المجلس وبنغازي. وهذه مسألة يصعب إثباتها أو نفيها، فالمشهد العام قد يعطي الانطباع بالتدين، ولكن ليس بالضرورة أن يكون متعصبا، وهذا ما لم يستطع كثير من الأوروبيين التمييز فيه. لذلك، هذا البطء والتريث يرجع إلى محاولة التأكد من العناصر المشاركة.

لا بد أن تثير المواقف الأوروبية الراهنة الأسئلة الكبرى، وأن تبرز سرديات عظمى. هل دخلت الإنسانية في عصر عولمة حقيقي؟ وهل يعمل الغرب بصدق على إدراج بقية العالم في التاريخ الجديد: عصر الليبرالية؟

أولا؛ أظهرت الأزمة الليبية بوضوح، عيبا جوهريا في عملية العولمة، والتي من أبسط تعريفاتها: سقوط الحدود. ولكننا أمام عولمة تتم إخافتها بهجرة الناس. فهذه العولمة الناقصة ترحب برؤوس الأموال، ولكنها تخشى «رؤوس» البشر. ثانيا؛ تتناقص الرغبة في التعرف على الأفكار الجديدة، واللجوء إلى التعميم والصور النمطية. وهذا وضع شاذ، إذ رغم تدفق المعلومات وسهولة الاتصالات، لم يزدد التفاهم بين الشعوب والثقافات. ومن المفارقات، أن الحركة تحدث بين الجنوب والجنوب. فقد فجّرت الأزمة الليبية مشكلات امتدت من الفلبين وباكستان حتى مالي وبوركينافاسو، وسيكون للأزمة أثرها الاقتصادي العميق على دائرة جغرافية واسعة. وليبيا رغم كونها دولة عالمثالثية، لكنها ذات استثمارات ضخمة في عدد من دول العالم، وتستمر في التهديد بأن تكون بوابة للمهاجرين غير الشرعيين نحو أوروبا. وهكذا تحولت العولمة إلى فزّاعة ضد العالم «المتحضر»، الذي بشّر بخيرات العولمة.

طرحت الأزمة الليبية ومن قبل انتفاضتا تونس ومصر، سؤال: ما هي الليبرالية التي يريدها الغرب لهذه البلاد؟ أولا، لا بد أن نفرق بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية. ودون الوقوع في نظرية المؤامرة، يمكن القول إن الغرب ليست لديه أي تحفظات تجاه ليبرالية اقتصادية، ولو أدت للفقر المدقع وتهميش قطاعات عديدة من السكان. ولكن معضلة الغرب هي كيف يمكن تأسيس ديمقراطية بانتخابات حرة ونزيهة وتعددية، دون أن يكتسحها الإسلاميون. فقد تسببت النظم الشمولية العربية في صعود الموجة الإسلامية، ووجد الإسلاميون أنفسهم أكثر المتضررين، وبالتالي ـ عن قصد أو بلا قصد ـ صاروا طليعة المطالبين بالحرية والديمقراطية. ويرد خصومهم على هذا التقييم بأن الاسلاميين غير صادقين في مطالبتهم، لأن الديمقراطية في فهمهم مجرد وسيلة يصلون بها إلى السلطة ثم ينقلبون ضدها. ويتبنى الغرب ـ لحد كبير ـ هذا الهاجس، وفي كثير من الأحيان يتلكأ الغرب.

عرف الغرب تاريخيا بأنه مصدر القيم المرتبطة بحقوق الإنسان والحرية والمساواة والعدالة، وهذه ـ تقريبا ـ هي نفس الشعارات التي رفعتها الثورة الفرنسية عام ‬1789م. ورغم حقبة الاستعمار حاولت قطاعات من الشعب الإبقاء على الشعارات حية، وعلى الأقل وقفت مع هذه المبادئ في الوطن الأم. ثم لم تعد مبادئ غربية بل إنسانية، مع وجود خصوصيات لا تصادر جوهر المبدأ أو القيمة.

والآن ما هو الغرب؟ هل الاتحاد الأوروبي هو الغرب وهو يضم بعض دول المعسكر الشرقي التي عاشت عقودا تحت الشمولية؟ وهل ستكون هذه الدول حريصة على الدفاع عن الديمقراطية في ليبيا أو اليمن مثلا؟ لا بد من تعريف جديد للغرب، ليس بالضرورة أن يكون جغرافيا، ولكن أن يتميز بريادة حقيقية في مجال الحرية والديمقراطية.

أشاد بعض القادة الأوروبيين، بالربيع العربي وتوق الشعوب العربية إلى الحرية والديمقراطية. لذا لم يعد العرب خارج التاريخ، ولم يعد العرب يعيشون الفوات التاريخي. فالعرب يحاولون ـ بهمة ـ اللحاق بالتاريخ وبالقرن الحادي والعشرين. فمن المؤكد أن أحداث الانتفاضات الشعبية لم تكن مجرد فعل سياسي، بل حدث وجودي متكامل مثّل بعثا جديدا للإنسان العربي.

ويتخوف البعض هذه الأيام من الثورة المضادة، ويقصد بذلك المعادين للتغيير الذين يسعون لإعادة الزمن إلى الوراء. ومن الطبيعي أن تكون هناك جماعات تتربص بالثورة لأنها منتفعة من النظام القديم، ولكن الثورة المضادة الحقة هي التوقف عند إسقاط النظام، دون الثورة ضد الذات وضد الواقع كله.

 

 

Email