الشرق الأوسط ستون عاماً مضت

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشرق الأوسط خلال ستين عاماً مضت «ثورات» و«تطور وارتقاء» وطلب للسلام.

لانعدام وجود آليات «التطور والارتقاء» في جمهوريات الشرق الأوسط، لم تكن الانهيارات التي شاهدنا ونشاهد ممثلة في تونس ومصر وليبيا وغيرها أمراً غير متوقع بالنسبة إلى لمحللين للحدث السياسي في منطقتنا العربية، ولكن غير المتوقع هو الانهيار الجماعي بهذا التوقيت.

خلال الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، قام ضباط في بعض الجيوش العربية بانقلابات عسكرية على نظم الحكم القائمة، وأعلنوا قيام جمهوريات في بلادهم بمشارب سياسية متباينة، وقد نتج عن ذلك انقسام العالم العربي إلى معسكرين، يرفض كل منهما الآخر. فقد وصف الجمهوريون أنفسهم بـ«التقدميين»، ووصفوا المعسكر المقابل بـ«الرجعيين»، ولكن المعسكرين كليهما كانا يطالبان بالتغيير والتقدم بطرق مختلفة، فالجمهوريون كانوا يطلبون ذلك من خلال «الثورة» والنظم التقليدية من خلال تمسكها بمنهج «التطور الارتقاء» التي عهدت به بالرغم من الانتقادات المقذعة حينها من المعسكر المقابل وبطء نتائجه وتقدمه.

بعد الثماني سنين الأولى من قيام الجمهوريات، فقدت هذه النظم الكثير من زخمها، وانعكس ذلك على أدائها تدريجياً سلباً على المواطن ونفعه، نتيجة عدم وجود آليات «التطور والارتقاء» بها، فجمدت وتكلست الجمهوريات، وتحولت بمرور الأيام إلى دكتاتوريات نتيجة بقاء الرؤساء رؤساء مدى الحياة، بل تطور ذلك مؤخرا، ليصبح وصفة شرق أوسطية صرفة بأيلولتها لدكتاتوريات وراثية!

وقد كان نهاية آخر مد للجمهوريات في معسكر نظم الحكم التقليدية دعم ثورة اليمن (‬1962-‬67) من قبل جمهورية مصر، بعد قيام الجمهورية المصرية بخمس عشرة سنة، وقد انتهى ذلك الدعم بالتسليم بحق القبائل في الاحتفاظ بسلاحها الخفيف والثقيل، بما فيها الدبابات، وبمضاء أحكامها في مناطق نفوذها، ضمن الدولة اليمنية الجمهورية (القبلية)، وباستمرار حمل أفرادها أسلحتهم الشخصية في الدولة، وتلك النهاية الفريدة عالمياً حملت معها قبول تعايش المعسكرين عبر العالم العربي!

إن ما نشاهد اليوم في عالمنا العربي ليس ثورات بالمعنى الذي حدث في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الذي مضى، وليس كما حدث في إيران قبل اثنتين وثلاثين سنة من ثورة ضد الشاه، فهي الأخرى مبتسرة تفتقد أيضا لآلية «التطور والارتقاء»، ويتجلى ذلك بوضوح من موقفها الرافض لمواقف المصلحين من رجالات النظام نفسه؛ أمثال محمد خاتمي ومصطفى مير حسين موسوي ومهدي كروبي، ناهيكم عن من هم خارجه، إذ إن هذه الانهيارات أو الثورات من دون قادة، سمها كيفما نظرت، لا فرق، ليس لها شعارات قومية أو دينية للتصدير عابرة للحدود كما عهدنا، بل إن هذه الانهيارات «تطور وارتقاء» لتلك الثورات التاريخية، لتستكمل جزءًا حيوياً ولدت مبتسرة من دونه، وهي أساساً كما يشاهد العالم مراجعات مركزة على الذات وعلاجها من درن الفساد والتحنط والجمود والقنوط سواء للفرد أو للدولة.

والمحلل السياسي الفطن لا يستغرب رؤية مكابرة أصحاب الأحزاب والعقائد «التنويرية» أو المشايعين للجمهوريات وعدم اعترافهم بفشلها بمقابل نظم الحكم التقليدية، كما لا يستغرب أيضا تجاوزهم عن ملاحظة الحقيقة الأخرى الساطعة كالشمس؛ وهي أن التغطية الإعلامية العنيدة والقوية المساندة للتغيير الذي يحدث تبث من الدول «التقليدية» في عالمنا العربي، وتحديداً من قناتي «الجزيرة» القطرية التي تبث من قطر و«العربية» السعودية التي تبث من الإمارات، وهو ما يجب أن يحسب لصالح الدول «التقليدية» بتسهيل إعادة ولادة الجمهوريات من جديد لتستكمل جزئية مهمة لاستمراريتها!

وبغض النظر عن انجازات الماضي، كيفما كانت سلباً أم إيجاباً، فالواجب على المعسكرين، سواء النظم التقليدية أو الجمهورية، المبادرة للاستجابة لمطالب الشباب العامة في الشرق الأوسط، لعدالة الحكم في حدودها الدنيا على أقل تقدير والمتعارف عليها عالميا، والعمل على تطوير عدالة الحكم كلما تطلب ذلك، فشباب هذا اليوم مطلع على حقوقه بسرعة الانترنت والتلفازات الفضائية، فإيقاعها هو إيقاع التاريخ المعاصر، ولذلك ليس بين يدينا إلا أقل القليل مما يمكن الأخذ به كسوابق تاريخية يمكن الركون لها وأخذ العبرة منها إن وجدت.

إن آلية «التطور والارتقاء» مطلوب إيجادها في النظم التي تفتقدها، وتحسينها ورفع كفاءتها في النظم التي توجد فيها هذه الآلية في جميع بلاد الشرق الأوسط دون استثناء، بما فيها إسرائيل «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» كما تدعي، فالتطور والارتقاء يستدعيها وبإلحاح اليوم للخروج من فكرة الصهيونية المتكلسة التي عفا عليها الزمن، وفقدت صلاحيتها، وأصبحت اليوم قيدا في رقبة إسرائيل في عالم التلفازات الفضائية والإنترنت؛ لما تمثل من تمييز وجور على حقوق الفلسطينيين الذين لا يتحملون ما حاق بحق اليهود من أوزار النازية وتناقضها مع أبسط مبادئ الديمقراطية في أي من دول العالم، وذلك بالانعتاق من الصهيونية لما بعد الصهيونية، انفتاحاً على قيم الإنسانية العالمية في يومنا هذا، ومواكبة لعالم الغد.

من خلال هذا «التطور والارتقاء» الذي يجب أن يعم دون استثناء أفغانستان وباكستان وإيران أيضاً، سيتأهل الشرق الأوسط لعصر سلام راسخ. هذا هو صوت الأغلبية الصامتة سابقا، رافعة الصوت المجلجل في أركان العالم حاليا، الفاعلة غداً، كما يمكن قراءته من خلال الأحداث، وهي قراءة لا تدعي العصمة من الخطأ بأي شكل من الأشكال، ولكنها قراءة للأحداث بمنطق مجرد، يسمو عن ميل الهوى ذات اليمين أو اليسار أو المناطقية الضيقة، وتفسير قابل للأخذ والطرح في أي من جوانبه المنطق والحيدة ذاتهما.

Email