عودة الدور المصري

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت سعيد الحظ حين حضرت إلى القاهرة قبل أيام قليلة من اندلاع انتفاضة يناير، وهذه هي مصر التي في خاطري. فانا أحشر نفسي ضمن العشاق المتيمين لهذه البلاد العظيمة، لذلك كان اهتمامي بمتابعة الأحداث عظيما. فالتحول في مصر ليس حدثا محليا بل زلزالا اقليميا وانذارا دوليا. لذلك، لم يكن غريبا خروج مواكب ومظاهرات في عواصم عربية تؤيد الشعب المصري وتتعامل مع الحدث وكأنه شأن داخلي يهمها مباشرة. والآن وضعت أحداث ‬25 يناير/‬2011 تاريخا فاصلا بين زمنين. مثلما نقول ما قبل الميلاد وما بعد الميلاد، وهو فعلا قبل وبعد ميلاد الجديد الذي سيعم المنطقة. بالتأكيد سوف تعود مصر التي كادت تغيب تماما. فقد تناهشتها دول كثيرة أرادت أن تشتري الدور بينما الدور يصنع ويفرض. وهذه مهمة صعبة تحتاج إلى تاريخ وثقل في أمور عديدة. والآن سيعود الدور المصري وهو هذه المرة لا يقتصر علي الدبلوماسية والاقتصاد والسياسة. وكان البعض يتوقع أو يتهم مصر بدور الوساطة أو حتى أحيانا بالسمسرة السياسية. ولكنها عائدة بدور رائد وطليعي وتنويري. ويبدأ بدروس عن كيف تبدع الثورات الشعبية؟

تضافرت عوامل التاريخ والجغرافيا والسياسة والموضع والموقع في تحديد الدور المميز طوال الزمن. ولم تغب مصر، فقد تتغير طبيعة الدور ويتحول مثلا من السياسة إلى الفن أو الأدب، ولكن لا يضيع أو يموت. ففي فترات كانت ترزح مصر خلالها تحت الاحتلال والإقطاع والملكية، ومع ذلك استمرت في نشر إشعاعها على محيطها. ففي مطلع القرن الماضي سبقت مصر، الشام والمغرب العربي، في فتح نوافذ ضوء على مجتمعات ظلت في سبات جعلها أقرب إلى أهل الكهف. ففي عشرينات القرن الماضي كان طه حسين قد كتب: في الشعر الجاهلي، وعلي عبدالرازق: الإسلام وأصول الحكم. فالكتابان بغض النظر عن القضايا المثارة، فقد كانت مبادرة في المنهج وفي استفزاز العقل المطمئن. كما جاءت أصداء محمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وسيد درويش ثم بعد ذلك السينما والمسرح والموسيقى والتشكيل والصحافة والجامعات. كانت مصر محظوظة في الاستفادة من تناقض وجدل التاريخ، فقد أفاد ماضرها. فمن المعروف عن إسماعيل باشا أنه صمم على أن يجعل من البلاد قطعة من أوروبا. ورغم أنه قد أغرق مصر في الديون ولكنها انفتحت على أوروبا والعالم. ويمكن القول بأن انفتاح مصر المبكر على أوروبا خلق فجوة واسعة بين مصر وبقية العرب. ونتج عن ذلك علاقة غريبة بين مصر والعرب أقرب إلى الوصف الفرويدي: الحب/ الكراهية. وتتعقد العلاقة كلما اتسعت الفجوة. وهذا ما يفسر حالات الشماتة التي يبديها البعض حين تواجه مصر بعض الصعوبات.

تقودني الملاحظة السابقة إلى تساؤل يبدو غريبا أو نشاذا أو لا يريد الناس إثارته، وهو: ألا يبدو أن مصر قد تعرضت لكثير من الجحود أو الظلم في تعامل أشقائها في العالم العربي؟ ولا أريد طرح السؤال المبالغ فيه، الذي رفعه البعض أثناء الأزمة مع الجزائر: لماذا يكرهوننا؟ فقد لاحظت أن مصر رغم كل ما قدمته للعرب الا أن المصريين لا يلقون الاحترام والتقدير الذي يستحقونه. وقد جاء هذا الشعور متأخرا مع التحولات الاقتصادية التي أجبرت المصريين على الهجرة الكثيفة خارج بلدهم. وصار المصريون في كثير من الأحيان يدافعون عن أنفسهم بإظهار الامتنان والتفاخر بما قدموه. وهذا موقف شعوري يباعد بين الناس ولا يقرب، واعتقد أننا بعد انتفاضة يناير أمام مصريين جدد ومصر جديدة. وهذا يتطلب تعاملا مختلفا وبالتالي علاقة أكثر ايجابية. فعلى العرب والمصريين استثمار نصر سياسي في مجال ثقافي هو هنا العلاقات بين الشعوب. خاصة وان الحاجة أصبحت أكثر إلحاحاً للدور المصري لأن العرب في أسوأ حالاتهم من الضعف والتفكك وغياب الرؤية. ورغم أن الحديث عن الوحدة العربية أصبح مثيرا للسخرية بعد الفشل الذي ارتكبه العرب، الا أن هذا لا يحرم الحديث عن مستويات أقل مثل التكامل أو العمل الاقتصادي المشترك. وقد يكون انفصال الجنوب السوداني والشلل العراقي والتجاذب اللبناني؛ دافعا للبحث عن صيغة تقارب مبتكر.

وهنا يبرز السؤال الملح: هل يمكن أن يكون الدور المصري الجديد هو التسريع في دمقرطة العالم العربي؟ وهل تملك مصر المقومات التي تجعل منها الدولة ـ القاعدة، كما كان يقول نديم البيطار فيما يخص الوحدة العربية؟ أثبتت تطورات الانتفاضة الشعبية أن المصريين يمتلكون قدرات هائلة في الحشد والتجييش والتظاهر بالإضافة لتنظيم السير والشعارات والهتافات والتموين والعلاج. والأهم من ذلك، التحضير للانتفاضة فهي ليست وليدة نداءات الانترنت والفيس بوك. فقد عرفت مصر خلال السنوات الفائتة عددا لا يحصى من التنظيمات الاحتجاجية والمواكب والاعتصامات. فقد سمعنا عن: كفاية وشايفنكم وأطباء بلا حقوق... الخ. كما أنه يوجد أكبر عدد من منظمات حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية والمرأة والطفل في مصر. ويمكن ملاحظة ذلك في المؤتمرات الخاصة بمنظمات المجتمع المدني. وتظل مصر مركزا أساسياً للطباعة والنشر في كل المنطقة العربية بلا منازع. ومازالت مصر تكتب كما كان يقال زمان. نعم هناك بعض التراجع ولكنه التراجع العام وليس مقصورا على مصر. فهي مؤهلة من ناحية البنية التحتية أن تقوم بمهمة نشر الديمقراطية بين العرب. ولكن ذلك مشروط بالقضاء على خوف وترويع السنين وأن تنطلق كوامن الإنسان المصري بلا عودة. واعتقد أن الإنسان المصري قد سبق الآخرين في تدشين القطيعة النفسية والفكرية والسياسية مع تراث القمع والاضطهاد والخوف. وقد تبدو هذه المهمة صعبة لأن مصر صاحبة أقدم دولة بل مخترعة فكرة الملك ـ الإله. وفي العصر الحديث، روجت للانقلابات والأجهزة الأمنية والتعذيب. وبالتالي سيرى الكثيرون صعوبة التخلص من عبء هذا التاريخ. ولكنني أقول العكس تماما،‬1789 بسبب هذا التاريخ هي القادرة على تقديم النموذج الديمقراطي. وفي التاريخ كانت فرنسا قبل ثورة عام هي الأكثر طغيانا وظلما، وصاحبة الباستيل، ومخترعة المقصلة، وأشنع أنواع الإقطاع؛ فتحولت إلى بلاد الحرية والإخاء والمساواة.

يخشي المرء من انكفاء مصر علي نفسها بسبب المشكلات الاقتصادية المحتملة ومرارة التعامل مع العرب وقد تضاف لهم الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي تنشغل بنفسها. وهنا يأتي دور القوى الديمقراطية خارج مصر. فهي تشكو دائما من العجز الرسمي في التعامل قوميا، فلماذا لا تبادر هي وفي مجال يحتاجه العرب: الديمقراطية والحرية، وتحقق الوحدة والتضامن؟ مثل هذا الحديث يبدو أقرب إلى اليوتوبيا أو الخيال، ولكن ما نعيشه الآن كان قبل أيام اليوتوبيا نفسها. فقد كان الواقع راكدا والجماهير بدت أقرب إلى الموات لا تحرك ساكنا والسلطة اطمأنت تماما علي تدجين شعبها. ولكن الإرادة والنبض الذي تخطئ في إدراكه النخبة هو القدر الذي يستجيب. وحتى اذا كان ما قلناه حلما، فقد آن لنا أن نحلم.

 

كاتب سوداني

Email