تغير موازين القوى الجيوسياسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم تراجع حدة الأزمة المالية الكونية التي بدأت عام ‬2008، فإننا ما زلنا نعيش في أجوائها حتى الآن، بما يعني استمرار الاضطرابات وما يرتبط بها من تغير حاد في القوى.

فمن أهم نتائج الأزمة المالية، أنها غيرت بدرجة كبيرة من النظام الجيوسياسي الكوني، الذي اعتمد في العقدين الماضيين على سيطرة القطب الواحد، متمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية وهيمنتها على كافة الفضاء الجغرافي الكوني.

فحينما بدأت الأزمة المالية كانت الولايات المتحدة هي القوة الكونية المتسيدة، بغض النظر عن المشكلات الهائلة التي تعانيها داخليا، وبدء تراجع التقييم الكوني لها. والواقع أن الولايات المتحدة استندت في تحقيق ذلك إلى عاملين هامين، لعبا دورا كبيرا في سيادتها لعقود طويلة؛ أولهما القوة الاقتصادية الهائلة، وثانيهما القوة العسكرية، بغض النظر عن أسبقية عامل على آخر وتغير الترتيب من فترة لأخرى. فكلا العاملين قاما بدور كبير في تدعيم وتواصل السيادة الأميركية حول العالم، منذ الستينيات وحتى بداية الأزمة المالية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.

ففي هذا العقد ضعفت الهيمنة الأميركية عسكريا، وبشكل خاص بعد تدخلها في العراق وأفغانستان، وما ارتبط بهما من تلويث لسمعة أميركا كونيا، على مستوى حقوق الإنسان وقضايا التعذيب وقتل المدنيين. كما أن القوة العسكرية لم تعد متغيرا كونيا مقبولا الآن، في ظل ما يرتبط بها من تجاوزات وانفلات غير معروف النتائج. كما ضعفت القوة الاقتصادية الأميركية بشكل لم يحدث من قبل، وهو ضعف نتج عن النزعة الاستهلاكية للنموذج الأميركي، إضافة إلى سيادة ما يعُرف بنمط الاقتصاد الافتراضي المرتبط بالمعلوماتية، وتراجع الانتاج الصناعي الذي اعتمدت عليه أميركا سابقا في السيادة الكونية. كما أن الدولار بوصفه العملة الكونية التي اعتمدتها الكثير من الدول والمؤسسات المالية العالمية، لم يعد يستطع صيانة العالم ماليا واقتصاديا.

وفي الوقت الذي عصفت فيه الأزمة ماليا بالولايات المتحدة، فإن هناك اقتصادات أخرى خرجت من رحمها أكثر قوة ونموا؛ مثل الصين والهند، وبنسب نمو عالية.

إن ظهور الصين قد فتح الباب على مصراعيه لإعادة تشكيل القوى الجيوسياسية، كما ساعد على تصاعد الحديث عن الأقطاب المتعددة، التي يمكن أن تعيد تشكيل الجغرافيا وربما التاريخ. والواقع أن النموذج الصيني قد استطاع طرح نفسه على العديد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، كنموذج جديد ومغاير يجمع بين توجيه الدولة من ناحية، وبعض الانفتاح الاقتصادي من ناحية أخرى. فالكثير من دول العالم اتهمت أميركا بالتسبب في الأزمة المالية، بسبب ضعف الدولار من ناحية، ورعونة النظام الأميركي تجاه المؤسسات المالية التي تسببت في الأزمة العالمية من ناحية أخرى. وهو ما جعل هذه الدول تثمن الاقتصاد الصيني، وترى في بعض الاحترازات التي أخذ بها، ضرورة ملحة ساعدت على إبقاء الصين قوية، رغم الخسائر التي لحقت بغيرها من الدول الأخرى. إن هذه التحولات قد ساعدت على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية، وانتقالها من رحم الولايات المتحدة إلى رحم الصين. فالعديد من القوى الآسيوية الهامة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ، رأى في الصين بديلا جديدا، جديرا بالاحترام والتعاون معه في ما يساعد على خلق محور آسيوي قوي ومستقر، بديلا عن الارتكان السابق على الاقتصاد الأميركي وعملته المتهاوية، وهو ما قدم فرصا غير مسبوقة للعديد من الدول النامية الأخرى، للتعاون مع الصين وخلق تبادل تجاري واسع المدى معها، مع ما يرتبط بذلك من مزايا تنافسية أخرى.

لقد تحولت الصين بفضل التوسع الاقتصادي، من قوة هامشية إلى لاعب دولي متنفذ، وليس أدل على ذلك من تحول الخطاب الأميركي بدرجة كبيرة، أثناء زيارة رئيس الوزراء الصيني الأخيرة، إلى المهادنة والقبول بالصين كلاعب دولي مؤثر. فلم تعد أميركا تحاول الاصطدام مع الصين، بقدر ما تحاول التعاون معها وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية، وتقديم بعض التنازلات لصالح الأخيرة. فالقوة العسكرية لن تجدي نفعا مع الصين، التي تقوم بدور كبير في توفير بعض فرص العمل للعاطلين في أميركا.

في ظل الأوضاع المتردية الأميركية عسكريا واقتصاديا، فإن أميركا لن تجازف الآن بأي نوع من التصعيد مع الصين، بقدر ما سوف تحاول أن تستفيد من صعودها الكوني وقبولها كلاعب جديد. ورغم ذلك لا يمكن التنبؤ باستمرار هذا التعاون أو عدمه، في ضوء التحولات العديدة التي تشهدها الولايات المتحدة، وفي ضوء صعود بعض القوى الأخرى، مثل الهند والبرازيل، وهي مسائل سوف تكشف عنها الفترات القادمة.

Email