ما الذي جرى حقاً في تونس؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا السؤال ليس عما حدث الأسبوع الماضي، فهو معروف للكافة وشاهده معظمنا على شاشات التلفزيون، حيث سقط الرئيس بن علي وفر هاربا، وتشكلت حكومة قالوا إنها تضم معظم الفاعليات السياسية في تونس.. ولكن حول أمر آخر تماما، أي ما حدث للثورة الشعبية التي أسقطت الرئيس المخلوع بن علي، وهل تم الالتفاف حولها فعلا أم أنها نجحت في إسقاط النظام، وليس رمزه فقط المتمثل في الرئيس الذي وصف بالديكتاتور؟

فما نسمعه من تحليلات ونقرأه من آراء يدور معظمها حول أنه تم الالتفاف حول ثورة الشعب التونسي، وأن النظام بقى بينما فر الرئيس. ويدلل أنصار هذا الرأي على قولهم بأن رؤوس النظام الآن هم من بقايا العهد السابق، أي رئيس الجمهورية المؤقت ورئيس الحكومة المؤقتة، وأن هذه الحكومة تضم أغلبية من الحزب الدستوري الذي كان حاكما. وهذه الآراء صحيحة تماما، لكنها تغفل عن أمر مهم جدا، وهو أن رموز النظام السابق بقوا، لكن هناك اتفاقا بين كافة عناصر الفاعليات التونسية، على إعداد دستور جديد، وصدور دستور جديد يعني أنه تم تغيير النظام، ويمكن عبر آليات أخرى ديمقراطية بموجب الدستور الجديد، أن يتم إخراج العناصر القديمة للنظام بعيدا عن العملية السياسية، أو تهميشها في المستقبل، ولكن ذلك سيتوقف على شكل الدستور القادم والقوى التي سوف تسيطر على عملية تشكيله.

والحاصل أن مستقبل تونس لا يهم فقط الشعب التونسي، وإنما يهم أيضا قوى خارجية نافذة، على رأسها كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، ويهم أيضا دولا عربية تخشى أن تنتقل إليها العدوى التونسية. من هنا فإن محصلة الصراع بين هذه القوى والشعب التونسي الذي يريد أن يحصل على ديمقراطية كاملة وعدالة اجتماعية حقيقية، ستحدد شكل الدستور التونسي المقبل. والشعب التونسي نفسه ليس كيانا أحاديا مصمتا، وإنما هناك قوى متعددة، منها قوى ذيلية للقوى الخارجية التي سبقت الإشارة إليها، وهناك قوى اجتماعية تبحث عن العدالة الاجتماعية أكثر من الديمقراطية الكاملة، وهناك قوى اقتصادية كمبرادورية ترتبط مصالحها بالخارج، وهناك قوى أخرى إسلامية تريد أن تطبق الشريعة الإسلامية في الدولة التونسية الجديدة.. وبالتالي لنا أن نتوقع صراعا آخر داخليا بين هذة القوى، حيث تريد كل منها أن تفرض الحزمة الأكبر من تصوراتها. ولعل نزول جبهة النهضة بعد أيام من نجاح الثورة، مطالبة بتغيير حكومة محمد الغنوشي، أحد تجليات هذا الصراع مع النخبة العلمانية واليسارية.

ويمكن القول إن المشغولين بمستقبل تونس، فضلوا خيار بقاء رموز النظام السابق، لعدة أسباب؛ الأول أن سياسة هذا النظام كانت تقوم على حرق البدائل، حتى لا يبقى في تونس غير النظام مستمرا برجاله في الحكم، وبالتالي فإنه كانت هناك قناعة لدى بعض العناصر النافذة، ومنها الجيش، أنه لا يمكن حكم تونس إلا بواسطة كوادر الحزب الدستوري الحاكم. أما ثاني الأسباب، فهو أن المشغولين بمستقبل تونس، خاصة في فرنسا ذات الحضور النافذ في تونس، كانوا يخشون من تكرار النموذج العراقي، الذي بدأ باجتثاث حزب البعث وهدم كل أركان التجربة السابقة. ويرى الكثيرون أن مثل هذه البداية تعني استمرار الفوضى ضاربة لسنوات في تونس، وأنها فرصة لنمو وانتشار التنظيمات الدينية المتشددة، مثل تنظيم القاعدة الذي ينشط في العراق، كما ينشط في الدول المحيطة بتونس، وبالتالي فإن الفراغ الذي سيظهر في تونس، سيغري القاعدة بنقل نشاطها في المغرب العربي إلى هناك.

ويبدو أن القوى النافذة المهتمة بمستقبل تونس، خاصة في فرنسا، استطاعت أن تفرض وجهة نظرها، التي لا تعني الالتفاف حول الثورة، وإنما قد تعني أنها اختارت التحرك التدريجي من أجل إسقاط نظام بن علي كاملا، ولكن على مراحل، وليس خطوة واحدة قد تكون ضارة بها، ذلك أن سقوط تونس في الفوضى يمكن أن يؤثر سلبا على جنوب أوروبا، التي تعاني كلها من خطر الإرهاب وتوجد فيها شبكات مرتبطة بالقاعدة لم يتم تفكيكها حتى الآن.

ولكن هذا الاختيار لا يجب أن يكون نهائيا، لأن نفس القوى وهي التي طالما دعمت بن علي ونظامه لسنوات، يمكن أن تركن إلى الوضع القائم ولا تسعى إلى تغيير النظام في المستقبل، الأمر الذي يفرض تحديا على الشعب التونسي الذي قام بالثورة، لأن الاستمرار في الوضع الراهن مرتبط بسكوت الشعب، خاصة وأن الحكومة الحالية التي تضم أركان النظام السابق، تتخذ خطوات لاسترضاء الجماهير، مثل السعي إلى فتح ملفات الفساد خلال العهد الأسبق، والانفتاح في مجال الإعلام، والإعلان عن محاكمة مسؤولي الشرطة الذين أساءوا معاملة المواطنين في الأحداث الأخيرة، وغيرها من الخطوات.

ولكن لا بد للقوى التونسية الحية أن تعلن عن قائمة مطالب لا يمكن التنازل عنها، في مقدمتها الدستور الجديد، وأن يكون هناك جدول زمني لصياغته وإعلانه، وأن تعلن عن مطالبها التي يجب أن يتضمنها هذا الدستور، خاصة تلك المتعلقة بالحريات العامة، وما يتعلق بملاحقة أركان النظام السابق قضائيا، وإعادة الأموال التي نهبوها وهربوها إلى الخارج.. هنا فقط يمكن القول إن الثورة التونسية قد نجحت، وأنه تم إسقاط النظام، وليس أحد رموزه فقط.

 

Email