ما بعد الهبَّات الشعبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

اندلع العديد من الهبات الشعبية في بعض الدول العربية في الأسابيع الماضية، فمن المغرب العربي حيث تونس والجزائر، مرورا بالمشرق العربي حيث المظاهرات والاعتصامات في مصر، وآخرها ما عُرف بمظاهرات الأقباط، وصولا إلى اليمن التي لا تنقطع عنها الاضطرابات منذ فترات ليست بالقصيرة. وتشهد هذه الدول من فترة لأخرى، هبات شعبية غير منظمة، سواء أكان وراءها بعض أصحاب المصلحة أو اتسمت بالعفوية.

ومن الملاحظ أن أغلب هذه المظاهرات، جاء في الأساس ضد قرارات حكومية تضر مباشرة بمصالح الفقراء أو محدودي الدخل؛ فهي في النهاية جاءت تعبيرا عن أزمات اقتصادية واجتماعية حادة، تواجه هذه البلدان في ظل تفاوتات طبقية عميقة، يبرز من خلالها نوع جديد من الغنى الفاحش، مقابل أشكال بالغة من الفقر. وإذا كنا اعتدنا هذا النوع من الهبات الجماهيرية في المنطقة، فإن السؤال الهام يتعلق بالتعرف على الأسباب التي لا تجعلها تنتقل من تلك الوضعية العفوية إلى شكل مؤسسي منتظم، والأسباب التي تؤدي إلى انفضاضها دون أن تحقق أية مكاسب للجماهير، التي غالبا ما تدفع أثمانا دموية نتيجة لمظاهراتها وأعمال الشغب التي تصاحبها!

الواقع أننا حرصنا على وصف تلك المظاهرات بالهبات، رغم محاولة الكثير من الأنظمة العربية وصفها بخلاف ذلك، متهمة المشاركين فيها بالارتباط بتنظيمات وأحزاب سياسية. فمعظم هذه الهبات جاء عفوياً كرد فعل سريع على ممارسات السلطات في بعض الدول العربية. ففي تونس اندلعت المظاهرات تعبيرا عما أصاب الشاب محمد البوعزيزي، الذي قام بإحراق نفسه تعبيرا عن سخطه على ما آلت إليه أوضاعه الاقتصادية، وفي الجزائر جاءت المظاهرات كرد فعل جماهيري عفوي على ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية الحيوية للجزائريين، وفي مصر خرج الأقباط يعبرون عن غضبهم ضد جريمة الاسكندرية... إلخ، من صور التظاهر العفوي التي يخرج من خلالها البشر في موجات صغيرة، غالبا ما تتسع بمرور الوقت. فما أن تبدأ هذه الهبات حتى لا يعرف المرء كيف اتسعت دائرتها، وكيف عمت كافة المدن والأحياء! والواقع أننا دائما أمام القشة التي تقصم ظهر البعير؛ فالتونسيون كانوا سيخرجون إلى الشارع إن عاجلا أو آجلا، ومثلهم الجزائريون والمصريون واليمنيون... إلخ، من القائمة العربية الطويلة. لكن الأحداث الفجائية المضطربة تغير المواعيد، وتدفع بالبشر المحبطين إلى الشارع الذي بمجرد أن يخرج إليه البعض يندفع نحوه الآخرون.

فما يحدث في الشارع العربي الآن هو حالة من تنفيس الغضب والغيظ، وإفساح الفرصة أمام الذات المقموعة لكي تمارس ما حُرمت منه سنوات طويلة، حتى لو تم ذلك عن طريق الحرق والسلب والسباب وصب اللعنات على رموز السلطة، أيا كانت مواقعهم وأيا كانت قيمتهم. هكذا فعل التونسيون والجزائريون والأقباط، وغيرهم من كافة المتظاهرين في الشارع العربي المعاصر. ففي لحظة التظاهر لا يوجد تقدير لأحد ولا قيمة لمسؤول؛ إنها اللحظة التاريخية للجماهير المقموعة، التي تخرج إلى الشارع بكل ما يوفره فضاؤه من إمكانيات الكر والفر، ومواجهة السلطات عبر عناصرها الأمنية المدججة بالسلاح. وكما أن الشارع مأوى للشباب العاطلين عن العمل في هذه البلدان، فإنه يصبح أيضا هو المأوى لهم أثناء الغليان والاضرابات.

وكما تندلع الاضطرابات، فإنها تخمد فجأة وتنتهي، ولا تجد لها مسارا حقيقيا تعبر من خلاله عن مطالبها وأهدافها. فالنظام العربي المعاصر أبدع في كيفية إجهاض أية محاولات للاستمرار والمتابعة، وفي ما عدا مطالب الأقليات التي يحرسها الغرب، تبدو مطالب الأغلبية مُجهضة وخالية من إمكانية النجاح والاستمرار. وفي ظل وجود معارضة هشة ورخوة، وربما أيضا عميلة للنظم التي اخترعتها وآوتها ماليا ومعنويا، فإن المتظاهرين كما يدخلون ساحة الهبات بعفوية، يخرجون منها بعفوية أيضا.

الواقع أن الهبات الشعبية لن تنتهي أبدا في ظل مناخ القمع والفساد المستشريين في المنطقة، وعلينا هنا أن نحسب عدد الهبات الجماهيرية التي انطلقت في العالم العربي، منذ أحداث ‬18 و‬19 يناير المصرية عام ‬1977 وحتى الآن. لكن المؤلم جدا أنه رغم تواتر حدوثها وما يرتبط بها من أحداث دموية وضحايا كثيرين، فإنها لم تؤد إلى تحريك المسار نحو التغيير السياسي والاقتصادي.

فهل سوف يستمر الوضع على ما هو عليه؛ مجرد هبات عابرة تُضاف لسابقاتها، أم أن ازدياد أعداد هذه الهبات المتواصلة سوف يؤدي لا محالة لتغييرات كيفية في المسار العربي السياسي القادم؟ وهو ما يحتاج لتناول جديد.

 

Email