«أيوه يا جميل»

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتحكم الأطر الاجتماعية في نوعية العلاقات الاجتماعية السائدة، فالأطر الواضحة تؤدي لعلاقات اجتماعية واضحة وبناءة في الوقت نفسه، والعكــس أيضا صحــيح. ولا تنفصل العلاقات الاجتماعية بأي حــال مــن الأحــوال عــن الأطــر الاجتماعيــة المحيطة بهــا، إلى الحــد الــذي يمكن معه التنبؤ بطبيعــة العــلاقات الاجتماعيــة مــن خــلال الأطــر الاجتماعية المنتجة لها. ونحن لا نخرج غالبا عن السياق الاجتمــاعي المحيــط بنا، خصــوصا إذا كــان ضاغطا ومقــيدا مثلــما الحال في سياقاتنا العربية المهيمنة.

وفي عالمنا العربي هناك نوعان من العلاقات الاجتماعية التي تسود كافــة المؤسسات، الرسمية وغير الرسمية، في حياتنا اليومية. أولها تلك العلاقــة التي يراعــي فيــها الأفــراد الجــوانب الاجتماعية بشكل مبالغ فيــه، إلى الحــد الذي يلفت أنظار الآخرين إليهم. يحكي لي أحد الأصدقاء عن زميل له غالبا ما كان يستهل حديثه مع زملائه، مباشرة وجها لوجه أو عبر التليفون، بعبارة «أيوه يا جميل»، إضافة للعديد من المفردات الأخرى الناعمة التي غالبا ما كان يرصع بها حديثه مع الآخرين. وهذا النوع غالبا ما يهتم بالعلاقات الاجتماعية بشكل كبير، على حساب أي شيء آخر، بما في ذلك متطلبات العمل ذاته، كما أنه يفضل أن ينسج حول نفسه شبكة واسعة من الأفراد يكون في المركز منها.

وقد تكون تلك العلاقات، حتى مع الإفراط فيها، جيدة ومقبولة إذا كانت تعكس بصدق نيات خالصة وتوجهات حقيقية، لكن من الملاحظ في عالمنا العربي، عبر العديد من الممارسات الحياتية اليومية، أن هذا النوع من العلاقات لا يتسم بالصدق والنوايا المخلصة، قدر ما يتسم بتحقيق المصالح والمنافع الشخصية. فهذا النوع يتسم بأعلى مستويات نعومته وممارسة خطابه المعسول عند التعامل مع الرؤساء والمتنفذين، كما أنه يتسم بالمرحلية وعدم الاستقرار والثبات في العلاقات، بحيث ينقلب صاحب هذا الخطاب تماما عند أول خلاف له مع الآخرين، فيتحول هذا الوجه الناعم واللسان الحلو، إلى شراسة لا يتصورها المحيطون به. وفي أغلب الأحيان يتسم هذا النوع من الأشخاص بالهشاشة النفسية، الأمر الذي يحاولون من خلاله مداراتها بمثل هذا الشكل المبالغ فيه من اللطف والادعاء الاجتماعيين. فمعظم من يمارسون هذا النوع من الخطاب، يواجهون مشكلات عديدة على المستويين النفسي والاجتماعي.

أما النوع الثاني من هذه العلاقات، فهو ذلك الذي يكشف من خلاله الأفراد عن شخصيات بالغة الجهامة والانعزال عن الآخرين، تحت غلاف من الاستعلاء والصمت. وهذا النوع، على العكس من النوع الأول، منعزل اجتماعيا ويتسم بالصلف في تعاملاته مع الآخرين، كما أنه يتسم بالصرامة والحدة. والغريب في الأمر أن هذا النوع من الأفراد قد ينطــوي على شــخصيات هادئة جدا وغير عدوانية، رغم الانطباع الذي قد يقدمونه للمحيطين بهم عبر تعاملاتهم اليومية. حدثني صديق أيضــا عن أحد زملائه في العمل، لم يكشف طوال وجوده في العمل إلا عن وجه صارم متعالٍ، والغريب في الأمر أن هذا التعالي كان يخفي في الخلف منه ضعفا شديدا في الشخصية، وعدم إلمام تام بمقتضيات العمل ومتطلباته. وفي عالمنا العربي هناك أشكال عديدة من هذا النوع قد تخدعنا لبعض الوقت، لكنها لا تستطيع خداعنا طوال الوقت، فمجريات العلاقات الاجتماعية فاضحة للكثيرين، مهما حاولوا إخفاءها أو تزيينها بأشكال وصور لا تمت لها بصلة.

وما بين هذين النوعين من العلاقات السائدة، يبدو أن النوع الأكثر نجاحا هو ذلك الذي يستطيع أن يفرض معادلة التوازن، بين الانغماس في العلاقات الاجتماعية الناعمة وبين الانعزال والصرامة. وهذا الشكل من العلاقات الاجتماعية يحتاج لحنكة بالغة، تراعي مقتضيات السياق وطبيعة الأشخاص ومنطق الأمور. ففي عالمنا العربي يبذل المرء الكثير من وقت العمل في تحديد مآرب الآخرين وتوجهاتهم، أكثر من التركيز على مقتضيات العمل ذاته، وهي آفة كافة المؤسسات في المنطقة.

وهي معادلة بالغة الصعوبة، يحددها نوعية من نتعامل معهم ودرجة ارتباطنا بهم، ونوعية السياقات المحيطة بنا. ففي عالمنا العربي يحب الناس معسولي الكلام، ويفضلونهم على غيرهم من النوعيات الأخرى الصارمة. واللافت للنظر أننا في عالمنا العربي، نفضل هذا النوع ونحن نعلم مسبقا بنفاقه وكذبه وافتعاله لمشاعر غير حقيقية، لكننا نفضله في النهاية على الصامت المتجهم وربما الصادق.

وكم من أشخاص دفعوا ثمن صدقهم في الكثير من المؤسسات العربية، وكم من أشخاص غيرهم دفعوا ثمنا باهظا لصراحتهم! هكذا العالم العربي في معظم سياقاته، يفضل دائما وأبدا من يفتتح كلامه بعبارة «أيوه ياجميل»، على أصحاب التقييم الحقيقي والصادق.

 

Email