ثقافة الارتهان للطارئ

ت + ت - الحجم الطبيعي

 

تبدو الأحداث العربية متلاحقة بشكل كبير، تعجز السياسات الراهنة عن متابعتها أو اتخاذ مواقف حقيقية وجادة تجاهها. فمن غزو العراق وتقسيمه طائفيا، وتفكيك السودان، وربما اليمن لاحقا، وفشل عملية السلام المزعومة والتراجع الحاد للقضية الفلسطينية، واقتراب لبنان من حافة الهاوية الفعلية وليست المتخيلة، ناهيك عن أوضاع باقي النظم العربية الطافية حتى موعد إغراق آخر.. يبدو المستقبل العربي مسكونا بالخوف والنكبات المتعاقبة.

فلا توجد منطقة في العالم يكتنفها غموض المستقبل مثلما عليه الحال في منطقتنا العربية، ولا توجد منطقة أخرى تضاهي منطقتنا فيما تعانيه من صراعات سياسية وأيديولوجية حادة. ورغم وجود بعض البؤر المضيئة، فإنها تظل رهنا بسياقات الخوف المحيطة بها، وأمزجة السياسات العربية المتقلبة والكاذبة في الوقت نفسه. لا يرتبط ذلك بتصورات وتوصيفات سوداوية متشائمة، بقدر ما يعكس واقعا مخيفا بالنسبة للحاضر وللأجيال القادمة. فلم إذا بعد ما يقرب من نصف قرن على الاستقلال، نعود إلى الخلف ولا نحقق شيئا ما في مسار الحضارات البشرية المتقدمة؟ ولماذا بعد أن استقرت الدولة وامتدت قبضتها في كل مكان، نعود سيرتنا الأولى لحالة الضعف والهوان؟ لماذا لا يحترمنا الآخرون ويقدروننا؟ ولماذا نسقط تماما من حساباتهم مثلما أظهرت وثائق ويكيليكس؟ ولماذا فشلت كل نظريات التنمية في التعامل مع تلك المنطقة ورسم أفق جديد لها ينقذها من براثن الضعف والتزلف والازدراء؟

الواقع أن هناك العشرات من الكتابات التي تناولت واقع العالم العربي طوال العقود الماضية منذ الاستقلال وحتى الآن، التي تفاوتت في منطلقاتها وتصوراتها بين الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. فالبعض منح الجوانب السياسية دورا هاما في تراجع العرب، مع التركيز بشكل كبير على الديمقراطية والممارسات المختلفة المرتبطة بها، وركز البعض الآخر على الجوانب الاقتصادية مشددا على ضرورة تحقيق تنمية فعلية مرتبطة بالعدل الاجتماعي وتقليل الفوارق الطبقية، وأخيرا ركز البعض على أهمية تغيير البنى الاجتماعية وما يعتورها من قيم متخلفة بالية، لا تستحق التعويل عليها في القرن العشرين، ناهيك عن القرن الواحد والعشرين. ولا يخفى على القارئ أهمية هذه الجوانب المختلفة، بل وأهمية الجمع بينها عند رسم معالم وخطوط أية تجربة تنموية. فمن غير المعقول التركيز على جانب وإهمال جانب أو جوانب أخرى؛ فالمسار الحقيقي للتنمية مسار تكاملي، وإن كان يُعلي من شأن جانب على حساب جانب آخر توخيا لظروف كل تجربة والسياقات التاريخية المرتبطة بها.

وما يلفت النظر في العديد من التجارب التنموية في عالمنا العربي، هو أنها رهنت نفسها للحاضر العابر، وفي الكثير من الأحيان الطارئ المفاجئ. ولم تخرج من شرنقة الالتزام بمواجهة تلك التحديات الراهنة، إلى آفاق الاستراتيجية التي تنتج الأمم المتقدمة وتُكسبها مكانة متميزة ومعترفا بها بين الأمم وحسابات التاريخ.

فمنذ ظهور دولة الاستقلال، وربما بسبب طبيعة نشأتها المتوترة، فإنها التزمت بالمعيش اليومي للمواطن وأصبحت الحاضنة للفضاء المحيط به، رغبة في توسيع أدوارها المجتمعية ومواجهة الفضاءات الأخرى المناهضة لها. ولعل ذلك هو ما أكسب دولة ما بعد الاستقلال ذلك التسرع الذي اتسمت به، ولم يكسبها قدرا مطلوبا من النضج في التعامل مع خطط التنمية المختلفة. من هنا فقد جاءت هذه الخطط مجرد حبر على ورق، حيث أصبحت في واد وممارسات الدولة في واد آخر. وهو أمر جعل معظم ممارسات الدولة في كافة جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ممارسات تتسم بالتعامل مع مستجدات الواقع بتسرع ورغبة في تلميع صورة السلطة، بغض النظر عن النتائج الناجمة عن ذلك على كافة جوانب المجتمع.

وربما لا توجد دولة عربية واحدة لديها خطط مدروسة يتم تطبيقها بقدر ما من المرونة التي تتوافق مع مستجدات الأمور. وربما هنا الفارق الرئيس بين الدول العربية قاطبة وبين إسرائيل، فهناك مشروع مجتمعي حقيقي في إسرائيل يسير في مساراته المحددة سلفا. وبغض النظر عن المساعدات الأميركية والغربية الهائلة، فإنه لا يمكن إنكار ما حققته إسرائيل على الأقل على المستوى التعليمي، مقارنة بالدول العربية مجتمعة.

فالتعليم مجال يُبرز دأب الدول ومجهوداتها المتراكمة عبر السنين، بحيث ينتج التطور الكمي المتواصل تطورا كيفيا حقيقيا، وهي مسائل حققتها إسرائيل بشكل فعلي وحقيقي مقارنة مع غيرها من الدول العربية الأخرى. الأمر الآخر هو مسألة الاعتداد باللغة وتوظيفها توظيفا جامعا لأفراد المجتمع، حيث يمكن المقارنة هنا أيضاً بين الدول العربية التي تفرط في لغتها تفريطا هائلا، مقابل إسرائيل التي استعادت لغتها من الشتات ورسختها في فكر وعقل المهاجرين لها.

المسألة هنا مرتبطة بتحديد إسرائيل لمجموعة أهداف يتم التركيز عليها ضمن خطط بعيدة المدى يتم تنفيذها، بغض النظر عن الظروف المحيطة والمستجدات الطارئة المختلفة. إنه الفارق بين الارتهان للطارئ العفوي العابر، وبين الارتهان للاستراتيجي بعيد المدى. والسؤال هنا: هل يملك العرب فعلا عقلا استراتيجيا يمكننا من اللحاق بإسرائيل، وفرض احترام الآخرين لنا؟!

 

كاتب مصري

Email