لكم التاريخ ليحكم عليكم... ولنا التاريخ نكتبه لنريح الضمير!

ت + ت - الحجم الطبيعي

من قلب المعاناة نكتب. الأحرى أننا لا نكتب، بل هذا دم قَلبِنا يَقطُر على بلدنا وأهلنا الصامدين الصابرين، الذين يسيل دمهم مجاناً في الشوارع... لا على الورق!
ونحن على يقين أن أي لبناني، أياً كانت طائفته وإنتماؤه السياسي، يستطيع اليوم أن يقول الأشياء بأفضل مما نقوله نحن، لأنه يعيش المعاناة بمرارة قاسية، ولأنه يدفع الأثمان الباهظة من اللحم الحي.

قبل أيام، تمرّغ دمُ أهلنا في الرويس بالبارود والنار. والرويس منطقة لبنانية، وأهلها لبنانيون، ومن العيب أن يتكلم أحد في السياسة عندما يكون الأبرياء هم مادة المساومة.
وفي اليوم التالي، خرج الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله ليؤكد في وضوح، وفي منتهى الجدّية، أن الرجال والنساء والشيوخ مستعدّون لمواجهة التكفيريين ومنعهم من بلوغ أهدافهم.
وقال قائد الجيش العماد جان قهوجي، كلاماً كبيراً أمام رتباء المؤسسة: سنكافح الإرهاب.
أما نحن، بوصفنا مواطنين عاديين لا مسؤولين ولا رؤساء أحزاب ولا أقطاب ولا وزراء ولا نواب.
ولأن لنا جذورنا في هذا البلد، ولأننا لا نخاف إلاّ من ربنا، ولا نخشى إلاّ على البلد،
فنقول بكل تواضع: نرفض أن يزايد علينا أحد في وطننا. ونرفض أن يدعي أحد بأنه ملكي أكثر من الملك!

***

نحن عشنا حرباً طالت 16 عاماً، ذقنا فيها أنواع الهوان، وأمضيناها في الملاجئ. وربما كثير من الذين يتذوّقون اليوم طعم الزعامة لم يكونوا قد ولدوا في تلك الحرب. ولذلك، ربما لا تسمح لهم تجربتهم بأن يدركوا حقيقة حجم الكارثة التي يَغرقون فيها ويُغرقون البلد بأسره.
كانت تلك الحرب تدميرية، ولكنها واضحة المعالم. كانت هناك "شرقية" و"غربية". وكان هناك مسيحيون ومسلمون، ومسيحيون ودروز، وكلٌّ يتحصّن في معقله الحصين. وكانت الحرب بين الذين ينادون بالشق العربي، وإختصرته سوريا غالباً، وسواهم... وإسرائيل أيضاً. وإنتهت الحرب في العبث المطلق. فلا التقسيم تحقّق، ولا الوحدة الوطنية السليمة ولا أي شيء آخر.
مئتا ألف قتيل ومليونا مهجَّر... ولا غالب ولا مغلوب. ولكن، لا أحد إتعظ من التجربة وأوقف المراهنات الوهمية الخادعة!
بعض الذين هاجروا يلوموننا لأننا نشكو أحياناً أو نقول "آخ" من شدّة الألم. ويقول لنا هؤلاء: لقد مرّت بكم التجارب كلها على مرارتها، أفليس ذلك كفيلاً كي تعتادوا على المآسي وتتوقفوا عن الشكوى!
نقول لهم: ما أسهل الحرب بالنظارات، وما أهدأ بال الذين تنعّموا بنعمة الهجرة الباكرة، فذهبوا هم وأولادهم وأصحابهم وأحباؤهم إلى ديار الأمن والسلام وتركوا الآخرين غارقين في مآسيهم، في ديار الحرب والخوف الدائم!

--------------------------

التاريخ سيقول كلمته في النهاية. سيَحكُم للجميع، وسيحكم على الجميع. ولا أحد، مهما عظم شأنه وإرتفع صوته اليوم، إلا وسيسكت أمام كلمة التاريخ!
سيقول التاريخ، لا نحن، إذا كان السيد حسن نصرالله والعماد قهوجي والقادة والزعماء الآخرون كانوا على صواب أم لا. ولكن كلمة التاريخ لن تأتي اليوم، بل بعد عشرين سنة أو أكثر ربما. وعندئذٍ سيكون "الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب".
لا نعرف إذا كان الذين يدخلون اليوم في الحروب على صواب في ذلك أم على خطأ. ونترك الحُكم للتاريخ. التاريخ الذي حكم على نابوليون وتشرشل وستالين ولينين وروزفلت وسواهم ممن صنعوا الحروب أو التسويات.
ولكننا نريد أن نعرف: مَن هو عدوّنا، أين هو، وما حجم قوته، وما حجم قوتنا، وهل نحن قادرون على مواجهته أم لا؟
لبنان بلد صغير. نحن لسنا في حجم العراق الذي يعاني الأمرّين منذ سنوات من نزف الدم اليومي. نحن بلد صغير لا نكاد نوازي بغداد في الحجم. وعندما نتكبّد الخسائر ببضع مئات بالأرواح، فإننا نكون قد خسرنا طاقة لا نستطيع تحمّلها.
وعندما يتخذ لبنان قراراً بمواجهة الإرهاب، فإنما يقوم بدور تفشل الولايات المتحدة وحليفاتها العظمى في تحمّل تبعاته.
---------------
ولكن، فليطمئنّ اللبنانيون، وليتعزّى ذوو الشهداء في الرويس وطرابلس وسواهما: لقد إتخذ رئيس الجمهورية ورئيس تصريف الأعمال قراراً بالحداد العام اليوم. فإطمئِنّوا يا خائفون ولتسكت الأمهات الثكالى والأطفال اليتامى.
رئيس جمهوريتنا إضطره الموقف المحزن إلى قطع إجازته في جنوب فرنسا، وكذلك رئيس حكومة التصريف حُرِمَ من يوم إضافي مع فخامته الى سان تروبيز. إنها خسارة فعلاً.
البلد على أعصابه، والمسؤولون "على بوابيرهم". وأما الرئيس المكلف، الآدمي المغلوب على أمره، فقد كان في اليونان، لكنه يحترف الصبر فقط!
فهل هذا ما يمكن أن يفعله المسؤولون إزاء الكارثة التي يدخل لبنان في غمارها. هل هذا كل ما يمكن فعله يا دولة العجز الكامل؟ نقطع الإجازة ونعلن الحداد؟
إذا كان الأمر كذلك، فقد يأتي اليوم الذي تُعلِنون فيه الحداد الدائم علينا كلنا... وعلى البلد كله!

***

نريد اليوم أن نصمد كما في عشرات السنين السابقة. نريد أن نجدّد ملحمة الصمود الوطني كما فعلنا في السابق. ولكن، كيف نصمد اليوم وقد أصبحنا منهكين ونكاد نلفظ الأنفاس؟ وكيف نصمد فيما حكامنا "في البوابير" بين جزر اليونان وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا. هناك تحرقهم شمس الشواطئ، وهنا يحرقنا البارود والنار... وربما الغاز الكيميائي الذي يدخل المعركة متألقاً وفاتحاً المجازر بحق الأطفال والشيوخ والنساء والرجال.
لا ينسون أن يستنكروا طبعاً. فالماكينة جاهزة لتصدير الإستنكارات العقيمة، التي لا تغني عن فشل ولا تغطي فضيحة الهرب من المسؤولية.
في الماضي، كافح اللبنانيون في دول الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت التي حضنتهم فصنعوا أمجادها وصنعت أمجادهم. وسعى اللبنانيون في أوستراليا وكندا وإفريقيا. وأما اليوم، فإلى أين يذهبون، ومن أين يأتون بالترياق الذي يحتاجه أهلهم المقيمون كي يصمدوا؟
ربما لا، العالم ضجِر منا، وربما نحن لم نكن أحياناً في حجم المسؤولية وفي أي حال، مشكورون هم الذين ما زالوا أصدقاء وأشقاء حقيقيين لنا في اللحظة الصعبة.
***
وفي أي حال، هل مطلوب من اللبناني الذي صمد سنوات طويلة، ونجا من أهوالها بعدما دفع الأثمان الباهظة، أن يعود اليوم إلى دفع الثمن تكراراً... ولماذا؟
وما هو الذنب الذي إرتكبه هذا اللبناني الطيّب، ولماذا يكون أولاده واحفاده مرشحين ليكونوا طعام الوحش الهاجم على بلادهم، ويمزّق أجسادهم الطريّة في أي لحظة...

***

هذه صرختي الشخصية في هذه اللحظات الدموية. وأومن بأن الناس الطيبين في بلادنا قادرون على قول الأشياء أفضل مني بكثير. ولهؤلاء، لشعب بلادي بأطفاله وشيوخه ونسائه ورجاله، آيات التقدير والحبّ والصلاة من الربّ القدير أن يحمينا جميعاً ويصون لبنان.
نحن الذين إرتدينا أيقونة الصمود على صدورنا، منذ أيام الأجداد،
ونحن الذين ناضل آباؤنا وأمهاتنا كي يخرج المنتدب الفرنسي ويتحقّق الإستقلال. ومؤسس هذه الدار في مقدمهم، عندما كتب متحدّياً عبارته الشهيرة "Moi civilisez – vous".
نحن اليوم أيضاً نريد أن نصمد... يا أيها الحكام والسياسيون الجدد، الجاهلون في التاريخ والغافلون عن الحاضر والمستقبل.
لا تغسلوا أيديكم من الذي هو لبنان.
سيكتب التاريخ تاريخكم، وسيحكم عليكم بالأسوَد أو بالأبيض... وأما نحن فلنا التاريخ نكتبه عنكم... لنريح ضميرنا... وهذا حقنا وواجبنا!
 

Email