ماذا أريد من الكتابة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مقال الأمس حول الكتابة باعتبارها طريق عبور لمعرفة الذات، كنت أتعرض لوجهة نظر صديقة عبرت عن علاقتها بالكتابة على مدى سنوات، انتهت إلى مرحلة نضج حقيقية في هذه العلاقة، بحيث تحولت أي كتابة عندها لحفر حقيقي في دواخل نفسها.

حتى  تبدو الكتابة في هذا السياق منطقية، كان لا بد من الحديث عن علاقتي الشخصية بالكتابة بعد هذه السنين الطويلة، وهذا في الحقيقة ما وصلني من أكثر من قارئ تساءلوا في رسائلهم: كيف تنظرين للكتابة؟.

أؤمن أن اكتشاف الذات في الكتابة هو جوهر كل كتابة حقيقية منتمية لكاتبها، وهذا ليس بالأمر البسيط أو الذي يمكن تحقيقه ببساطة أو بمجرد مباشرة الكتابة، لأن اكتشاف الذات عملية مركبة وطويلة المدى لا تنتهي حتى انتهاء العمر، ومع استمرار الكتابة تقوى الذات باكتشافها، ويلتئم الكثير من جروحها، فتتحول الكتابة لحظتها إلى هوية، ومقاومة، وحفر مستمر لا يهدأ.

حين نصل في كتابتنا لهذا المستوى تتحول إلى حالة استحقاق ومصير لا يمكنك التفريط فيه بسهولة، فلا تعود في منطقة الهاوي الذي يعبر عن هواية أو موهبة، تغادر منطقة السذاجة هذه بشكل نهائي.

تضيؤك الكتابة حين تمنحك النضج، والامتلاء، التحقق، والقوة، الشهرة والمكانة، الاحتفاء والتقدير، وكل ذلك حفرته أنت في معية الكتابة على مدى سنوات، لذلك فأنت تستحق ما وصلت إليه، لأنك حققته بصبر واحتمال ودأب مرهق جداً، أنت فقط من تعرفه ومن تذكر أيامه ومعاناته، لذلك تضعك الكتابة حيث تقرر أنت أين تضع نفسك من خلال سؤالك الدائم عند كل كتابة: ماذا أريد من هذه الكتابة؟.

الكتابة تعطيك بقدر ما تعطيها، فالكتابة متطلبة ومرهقة كعلاقة حب، كامرأة حسناء، كمدينة تحتوي أسرار المعرفة والتاريخ، وكلغة لم تفك شيفرتها وألغازها.. عليك أن تحفر وتعاني وتقصي وتحارب، وتشعر بأنك مرمي في الصحراء وحيداً، وأن عليك أن تبحث وحيداً عن مائك وظلك وأمانك، وساعتها ستجد كل ذلك في الكتابة وعند الكتابة.. هذا هو ما تقدمه لك الكتابة، وليس أي مصلحة مادية أبداً.

Email